تُعدُّ رفح من أكثر المناطق عنفاً في الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ وعلى مدى السنوات الأربع الأخيرة تواترت حوادث تبادل إطلاق النار بين الجيش الإسرائيلي والجماعات الفلسطينية المسلحة عند نقاط مختلفة على طول الحدود وما يلي عبارة عن شرح بسيط للقتال الذي وقع وليس تقسيم زمني للأحداث.
وتطلق مواقع الجيش الإسرائيلي نيران المدافع الرشاشة ذات العيار الثقيل ومدافع الدبابات على المناطق المدنية. وخلصت منظمة هيومن رايتس ووتش من زيارات متعددة للمنطقة قامت بها منذ عام 2001، ومقابلات أجرتها مع بعض أهالي المنطقة والدبلوماسيين الأجانب وموظفي المعونة والصحفيين، إلى أن هذا القصف يجري فيما يبدو دون تمييز إلى حد بعيد ويقع في بعض الحالات دون استفزاز مسبق. وفي يوليو/تموز عام 2004 كان كل بيت تقريباً عند الطرف الجنوبي لرفح مشوهاً بآثار نيران الرشاشات الثقيلة ومدافع الدبابات والقذائف الصاروخية على الجانب المواجه للحدود. ولم تكن الثقوب الناجمة عن الطلقات متركزة حول النوافذ أو غيرها من المواقع التي يُحتمل أن يستخدمها القناصة فحسب، بل كانت متناثرة على واجهات المباني بأكملها. وشاهد باحثو هيومن رايتس ووتش أيضاً استخدام نيران الرشاشات الثقيلة دون تمييز ضد المناطق المدنية الفلسطينية في خان يونس التي تقع على مقربة من رفح دون أن يطلق الفلسطينيون النار من تلك المنطقة فيما يبدو آنئذ.
وتتعرض مواقع الجيش الإسرائيلي ودورياته على الحدود بأنتظام للهجوم على أيدي الجماعات الفلسطينية المسلحة باستخدام الأسلحة الصغيرة والقذائف الصاروخية. وخلال الأيام الثلاثة التي قضاها باحثو منظمة هيومن رايتس ووتش في رفح في يوليو/تموز أطلق الفلسطينيون نيران الأسلحة الصغيرة بصورة متقطعة، بينما أطلقت رشاشات الجيش الإسرائيلي الثقيلة دفعات طويلة من الأعيرة النارية على المخيم. وأبلغ ممثلو الجماعات الفلسطينية المسلحة في المخيم هيومن رايتس ووتش بأن الحدود التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي جيدة التحصين ومهاجمتها لا تكاد تجدي نفعاً، خاصة وأن الطلقة الواحدة من عيار 7.62 مليمتر تكلف في رفح سبعة دولارات أمريكية (وهو رقم ذكره أيضاً الجيش الإسرائيلي كدليل على نجاحه في منع وصول الأسلحة إلى المنطقة).
ويستخدم الجيش الإسرائيلي والجماعات الفلسطينية المسلحة على السواء أساليب تعرض المدنيين للخطر. وينبغي بموجب القانون الدولي العرفي إبعاد المدنيين عن العمليات العسكرية قدر الإمكان، وهم يتمتعون بالحماية العامة من الخطر الناشئ عن العمليات الحربية. وقد وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش العديد من الحالات التي حول فيها الجيش الإسرائيلي مباني مدنية إلى مواقع للقناصة خلال عمليات التوغل وأرغم سكانها على البقاء معهم داخلها. وفي بعض الحالات أرغم الجيش الإسرائيلي المدنيين على أن يكونوا "دروعاً بشرية" أثناء تفتيش منازل الفلسطينيين، وهو إجراء محظور تماماً بموجب القانون الإنساني الدولي.(5) وتعرض الجماعات الفلسطينية المسلحة المدنيين أيضاً للخطر من خلال مهاجمة الجيش الإسرائيلي من داخل المناطق الآهلة بالسكان، إلا أن هيومن رايتس ووتش لم تجد دليلاً على إطلاق المسلحين النار من منازل مسكونة أو إجبارهم السكان على السماح للجماعات المسلحة باستخدام منازلهم.
ولا تزال معظم المنازل الواقعة عند طرف المخيم مأهولة، ولو في بعض الأوقات، على الرغم من إطلاق النار الكثيف يومياً. ويبقي بعض السكان في منازلهم رغم الخطر، خشية أن يعتبرها الجيش الإسرائيلي مهجورة فيستهدفها بالهدم. ومع ذلك فحتى عندما يغادرون منازلهم لا يُعد غيابهم تخلياً عنها خصوصاً حينما يضطر المدنيون للفرار بسبب إطلاق الجيش الإسرائيلي النار عشوائياً. وقد شرح فلسطيني يقيم في الملعب البلدي بعد أن هدم الجيش الإسرائيلي اثنين من بيوته في عامي 2001 و2004 أساليب الجيش الإسرائيلي التي تجبر الفلسطينيين المقيمين قرب الحدود على ترك منازلهم. وقال "إذا أراد [الإسرائيليون] حملك على ترك البيت يطلقون النار على الجدران.. يطلقون النار على النوافذ. ثم يكون بوسعهم أن يأتوا ويقولوا 'إنه خالٍ' ثم يهدمون المنزل."(6)
ولا تتوفر إحصاءات شاملة لعدد القتلى من المقاتلين والمدنيين، وليس ثمة إجماع على عدد المدنيين بين القتلى والجرحى الفلسطينيين الذين سقطوا بنيران الجيش الإسرائيلي. ولا يسجل الجيش الإسرائيلي فيما يبدو إحصاءات لأعداد المدنيين الذين يسقطون قتلى أو جرحى بنيران قواته. وتفيد إحصاءات الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء بأن 393 من سكان محافظة رفح قُتلوا خلال الفترة من 29 سبتمبر/أيلول عام 2000 إلى 31 أغسطس/آب عام 2004، ومن بينهم 98 طفلاً دون سن الثامنة عشرة.(7) وأقل نسبة ممكنة للضحايا المدنيين في رفح هي 29 في المائة، وهي نسبة النساء والأطفال الذين قُتلوا على مدى السنوات الأربع الأخيرة. ولا شك في أن العدد الفعلي أكبر كثيراً لأن نسبة 29 في المائة تنطوي على افتراض بأن كل ذكر فلسطيني بالغ ممن قُتلوا كان مشتركا اشتراكاً مباشراً في العمليات القتالية. وفي الفترة نفسها قتلت الجماعات الفلسطينية المسلحة عشرة جنود إسرائيليين في رفح. وقد قُتل أحدهم أثناء دورية على الحدود في فبراير/شباط عام 2001، وقُتل أربعة آخرون خلال عمليات توغل داخل المخيم. وقُتل الجنود الخمسة الآخرون يوم 12 مايو/أيار عام 2004 عندما دمر مقاتلو حركة الجهاد الإسلامي آلية إسرائيلية مدرعة بقذيفة صاروخية.(8) واتخذ الجيش الإسرائيلي هذا الحادث الأخير ذريعة لتوسيع المنطقة العازلة من خلال الهدم الواسع النطاق للمنازل. وهذا يوضح، كما سنبين لاحقاً، نتائج المفهوم التوسعي للأمن لدى الجيش الإسرائيلي.
ففي هذا السياق اتخذ الجيش الإسرائيلي خطوات تتجاوز بمراحل ما يسمح به القانون الدولي وما يتطلبه أمن قواته. لقد أقام الجيش الإسرائيلي تحصينات محسنة على الحدود تقدم في حد ذاتها إسهاماً كبيراً في حماية الدوريات، إلا أن هذه التحصينات الجديدة أُقيمت على مسافة أعمق داخل المنطقة التي هُدمت منازلها مما يجعلها أقرب إلى المنازل القائمة ويوجد فعلياً نقطة انطلاق جديدة لعمليات الهدم. إن المفهوم التوسعي للأمن لدى الجيش الإسرائيلي يتنافى مع روح القانون الإنساني الدولي ومن شأنه أن يفضي إلى استمرار عمليات الهدم.
تمتد الحدود بين قطاع غزة ومصر مسافة 12.5 كيلومتر من بينها أربعة كيلومترات في منطقة رفح. ويشير الجيش الإسرائيلي إلى هذه المنطقة الحدودية المسماة محور أو ممر "فيلادلفي"، لكن الأفضل فهمها على أنها منطقتان متمايزتان: ممر للدوريات يحميه ساتر (ويقع بين الحدود وتحصينات الجيش الإسرائيلي) ومنطقة عازلة (الفضاء بين تحصينات الجيش الإسرائيلي ومنازل رفح). وتوضح الصور الملتقطة من خلال الأقمار الصناعية، والمتضمنة في هذا التقرير، التوسع في كلتا هاتين المنطقتين.
وقبل الانتفاضة كان الجيش الإسرائيلي يحتفظ بممر للدوريات على طول الحدود يتراوح اتساعه بين 20 و40 متراً، ويفصله عن المخيم في معظم الأماكن جدار خرساني ارتفاعه ثلاثة أمتار تقريباً وتعلوه أسلاك شائكة. وفي بعض المناطق في المخيم، ولاسيما في "بلوك O"ذي الكثافة السكانية الكبيرة، كانت المنازل تقع على بعد بضعة أمتار من ممر الدوريات.
وفي عام 2001 بدأ الجيش الإسرائيلي، مع اندلاع الاشتباكات المسلحة في المنطقة الحدودية، يقوم بمداهمات ليلية في "بلوك O"وغيره من المناطق في رفح هدم خلالها ما يقرب من 12 إلى 24 منزلاً في كل هجوم طارداً كل السكان من المنطقة التي أُزيلت منازلها. وقال الجيش الإسرائيلي إن عمليات الهدم رد ضروري على هجمات الجماعات الفلسطينية المسلحة فضلاً عن أنها تتم في إطار جهود التصدي للأنفاق. وأسفرت عمليات الهدم عن نشوء منطقة عازلة قائمة بحكم الواقع بين ممر الدوريات والمخيم تتناثر فيها الأنقاض وتخلو من الفلسطينيين.
وفي أواخر عام 2002، بعد هدم عدة مئات من المنازل في رفح، بدأ الجيش الإسرائيلي يقيم جداراً معدنياً ارتفاعه ثمانية أمتار على طول الحدود. وقد بلغ طول مسار هذا الجدار الآن 1.6 كيلومتر، ويواجه أجزاء رفح التي كانت أقرب إلى الحدود. ومن شأن مثل هذا البناء أن يعزز أمن دوريات الجيش الإسرائيلي إلى حد بعيد، حيث يتيح للمركبات المدرعة أن تقوم بدورياتها دون أن يراها القناصة الفلسطينيون بينما يمكن لأبراج الجيش الإسرائيلي المحصنة في ممر الدوريات والمقامة على طول الجدار أن تراقب أي هجمات على الجدار من جهة رفح وتتصدى لها. وكان من الممكن إكمال هذه الخطوات من خلال اتخاذ إجراءات أمنية أخرى يجيزها القانون الدولي، مثل تقييد الدخول إلى المناطق الواقعة قرب الجدار أو السيطرة على العقارات(9) الواقعة على طوله (أي الاستيلاء على المنازل وإغلاقها بأسلوب يمكن الرجوع فيه). إلا أن الجيش الإسرائيلي لجأ بدلاً من تجريب أي من هذه الإجراءات إلى عمليات الهدم الجماعي للمنازل دون إنذار مسبق وفي منتصف الليل في كثير من الأحيان.
وأهم ما في الأمر أن الجيش الإسرائيلي أقام الجدار داخل المنطقة التي هُدمت منازلها على بعد يتراوح بين 80 و90 متراً من الحدود. وضاعف مثل هذا التوسع عرض ممر الدوريات، وهو توسع لم يكن مطلوباً لحماية الحدود، إذ كان اتساع الممر السابق، الذي كان عرضه يتراوح بين 20 و40 متراً، كافياً لمرور المركبات المدرعة في عدة حارات. وعرض الدبابة مركافا التي يملكها الجيش الإسرائيلي 3.72 متر، بينما يبلغ عرض الجرافة المدرعة "كاتربيلر دي 9" التي تُستخدم في عمليات الهدم 4.58 متر بدون الدروع.
ونتيجة لتوسيع ممر الدوريات باتت تحصينات الجيش الإسرائيلي أقرب إلى المخيم، الأمر الذي يعرضها لمخاطر تُتَّخذ لاحقاً كعلةً لتبرير المزيد من عمليات الهدم. وكما توضح الصور الملتقطة من خلال الأقمار الصناعية في مايو/أيار عام 2004، تفصل مسافة تقرب من مائتي متر من المنازل المهدمة بين الجدار المعدني والصفوف الأخيرة من المنازل الباقية. وهُدم حوالي 15 في المائة على وجه الإجمال من المساحة المبنية التي كانت قائمة في وسط رفح قبل عام 2000 لإفساح المجال لتوسيع ممر الدوريات والمنطقة العازلة كليهما. واستغل الجيش الإسرائيلي مقتل خمسة جنود إسرائيليين في رفح في 12 مايو/أيار عام 2004 في التدليل على الحاجة إلى توسيع المنطقة العازلة. لكن هذا الحادث إنما يظهر الآثار المترتبة على مفهوم الأمن لدى إسرائيل القائم في صميمه على التوسع، فقد كانت المركبة المدرعة التي تقل الجنود تقوم بعملية مضادة للأنفاق بين الجدار المعدني والمخيم وليس داخل ممر الدوريات.
ووفقاً لهذا المنطق يمكن للجيش الإسرائيلي أن يواصل نقل مواقعه لتزداد قرباً من البيوت باطراد، ثم يعمد إلى هدم تلك البيوت لأغراض أمنية. وهذا يساهم في تفسير سبب زيادة معدل هدم المنازل في رفح إلى ثلاثة أضعافه في عام 2003 مقارنة بما كان عليه في العامان السابقان بعد اكتمال الجدار على الرغم من أنه كان ينبغي أن يقلص الحاجة المفترضة لحماية الحدود. وعلى نفس المنوال، فإن توصيات الجيش الإسرائيلي التي تقضي بهدم المزيد من المنازل تقوم في جانب منها على الحاجة المفترضة لحماية خندق مضاد للأنفاق في المنطقة العازلة؛ وقد يكون مثل هذا الجدار مشروعاً من الناحية النظرية، إلا أنه لا يمكن استخدامه كسبب للمزيد من توسيع المنطقة العازلة لاسيما في ضوء وجود أساليب أقل تدميراً لرصد الأنفاق وإبطال استعمالها.
إن هذا المفهوم "للأمن" القائم في صميمه على التوسع لا يتمشى مع واجب إسرائيل كقوة احتلال في الموازنة بين مصالحها ومصالح السكان المدنيين. وكما قال ضابط بالجيش الإسرائيلي "لا يخالجني شك في أن أعمال الإزالة (أي هدم المنازل وتجريف الأرض) تنطوي على عنصر ذي أهمية تكتيكية، لكن السؤال هو أين نتوقف؟ فوفقاً لهذا المنطق ما الذي يمنعنا من تدمير غزة؟"(10)