فوق القانون:
السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول
أليسون باركر وجيمي فيلنر
عدل اليوم، وظلم في الغد. ليس هذا بالحكم الرشيد
مثل شعبي من تراث قبائل الأسانتي - غانا
الحكم الرشيد في ظل القانون

في القرن الرابع عشر رسم أمبروجيو لورينزيتي صوراً جدارية في دار بلدية مدينة سيينا الإيطالية تصور مفهوم الحكم الرشيد والحكم الفاسد من خلال شخصيات رمزية خيالية، واستخدم في لوحة الحكم الرشيد ظلال اللون الذهبي والأزرق المخضر والأحمر والأصفر المحمر لتصوير شخصية "جوستيتيا" (العدالة) مرتين تأكيدا على أهميتها البالغة، فمرة نراها في صورة كلاسيكية وهي جالسة توازن الميزان الذي تحمله الحكمة، بينما نرى في جدارية الحكم الفاسد شخصية "تيرانيا" (الطغيان) مزهوة بانتصارها وهي جالسة فوق جسد "جوستيتيا" المدحورة وبجانبها شظايا الميزان المحطم. وقد استمد لورينزيتي رسالته التي يرسلها عبر هذه اللوحة من ثورة الفكر السياسي في ذلك الوقت، وهي رسالة واضحة مؤداها أن العدل عصب الحكم السديد. أما في حال فساد الحكم فإن السلطة الحاكمة تضع نفسها فوق مستوى العدالة المنهزمة والمطروحة أرضا، أي أن العدالة لا تصبح قادرة على حماية الفرد، والسلطة التنفيذية تتصرف دون قيد وتضرب بالقانون عرض الحائط.

وكان المسؤولون عن إقامة العدل في مدينة سيينا في عصر النهضة، مثلهم مثل غيرهم في أوروبا الغربية، جزءا لا يتجزأ من السلطة الحاكمة. فحاولت الحكومات المعاصرة أن تضمن إقامة العدل بإنشاء نظم قضائية مستقلة ومحايدة وقادرة على مساءلة الحاكم والمحكوم سواء بسواء عن خرق القانون. ومن المؤكد أن فصل المحاكم عن السلطة التنفيذية وقدرة المحاكم على مراجعة دستورية الإجراءات التنفيذية ملمح بالغ الأهمية في الإطار القانوني في الولايات المتحدة، بل إنه عماد سيادة القانون وحماية حقوق الإنسان فيها.

ولكن منذ أن تولى الرئيس جورج بوش منصبه وهو يحكم وكأنه تلقى تفويضا ساحقا باتباع سياسات تؤكد على قوة السلطات التنفيذية، وعدم الثقة في دور القضاء - إن لم يكن الاستهانة به تماما. فكثيرا ما اتخذت إدارة بوش الموقف الذي يرى أن قضاة المحاكم الفيدرالية كثيراً ما يعززون الحقوق الفردية على حساب السياسات التي تختارها السلطة التنفيذية أو التشريعية، فسعت إلى ترشيح قضاة يشاطرونها الإيمان بفلسفتها السياسية. لكن ما يثير القلق مسألة جوهرية تتجاوز أي قضاة بعينهم أو أحكام بعينها. إذ يبدو أن الإدارة عازمة على حماية الإجراءات التنفيذية التي تعتبر أنها تعزز الأمن القومي من أي فحص قضائي جاد، وتطالب المحاكم بالإذعان لمشيئتها حتى فيما يتعلق بأعز الحقوق على النفس البشرية وهو الحق في الحرية.

ويتركز جانب كبير من قلق الشعب الأمريكي بشأن سياسات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على الصلاحيات الرقابية الجديدة للحكومة، التي تتضمن إمكانية الاطلاع على السجلات التجارية، والملفات المحفوظة في المكتبات، وغيرها من البيانات الخاصة بالأفراد الذين قد لا تكون هناك أي شبهة محددة في تواطئهم مع الإرهاب. فقد تؤثر هذه السياسات على عدد من المواطنين الأمريكيين أكثر بكثير من تعبير "مقاتلي العدو" أو قرار احتجاز الأفراد في السجن شهوراً بتهم روتينية مثل مخالفة قوانين التأشيرة. لكن الجهود التي بذلت لتقليص الحق في الحرية وتحجيم دور المحاكم في حماية هذا الحق، أو الالتفاف عليه، قد تكون أشد خطرا على نظام الحكم بالولايات المتحدة إجمالا. حيث أثار نقاد سياسات الإدارة الأمريكية لمكافحة الإرهاب المخاوف من أن الحريات المدنية باتت يُضحى بها من أجل منفعة لا تذكر للأمن القومي. بيد أن هذه الانتقادات عموما لا تتناول التساؤلات الأكثر جوهرية، وهي: من الذي يقرر حجم الحماية الواجب منحه للحقوق الفردية، ومن الذي يحدد متطلبات العدالة - أهي السلطة التنفيذية أم القضائية؟ ومن الذي يحدد مدى ما يمكن أن يطلع عليه الجمهور من السياسات الداخلية لمكافحة الإرهاب التي تجور على الحقوق الفردية؟

ويلاحظ أن الكثير من الاستراتيجيات الداخلية لإدارة بوش بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول تمثل تحديا مباشرا لدور المحاكم الإدارية والفيدرالية في تقييد الإجراءات التنفيذية، خصوصا ما يؤثر منها على حقوق الإنسان الأساسية. فبعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول احتجزت إدارة بوش أكثر من ألف شخص يفترض أنهم على صلة بأنشطة إرهابية أو على علم بها، وحالت الإدارة دون الفحص القضائي الجاد لمعظم الاعتقالات من هذا القبيل، وأصرت على حقها في حجب معظم أسماء المقبوض عليهم فيما يتعلق بجهودها في مكافحة الإرهاب، ووصفت أشخاصا قبض عليهم في الولايات المتحدة بأنهم "مقاتلون من الأعداء"، وزعمت أن لها سلطة وضعهم في الحجز الانعزالي في السجون العسكرية دون توجيه تهمة إليهم ودون السماح لهم بالاتصال بأي محامين. كما أصرت على أنها هي الوحيدة صاحبة السلطة في إبقاء مئات من الرجال رهن الاعتقال إلى أجل غير مسمى في قاعدتها العسكرية في خليج غوانتانمو في كوبا، في شبه عزلة تامة عن العالم الخارجي؛ وكان معظم هؤلاء قد اعتقلوا في أثناء الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان. وقد سمحت إدارة بوش بعقد محاكمات عسكرية للمعتقلين الأجانب وفقا لقواعد تضرب عرض الحائط بالحق في الدفاع والحق في الاستئناف أمام محاكم مدنية بصورة جادة.

في سياق هذه الأفعال كلها، عرّضت إدارة بوش حقاً قديماً للخطر، وهو حق المعتقل في المثول أمام قاضٍ للنظر في قانونية اعتقاله؛ ولعل هذا ليس بمستغرب لأن "المحاكم ظلت على مر العصور تحرص على الحفاظ على حق إحضار المعتقل أمام القاضي باعتباره ضابطاً يحول دون طغيان الأجهزة التنفيذية واستيلائها على السلطة".(1) والمعروف أن الحق في إحضار المعتقل أمام قاضٍ للنظر في قانونية اعتقاله هو حق ظهرت إرهاصاته في الوثيقة العظمى "الماغنا كارتا" منذ عام 1215، ثم كفله الدستور الأمريكي بعد قرون من استخدامه في إنجلترا، وأن هذا الحق يضمن لكل شخص حرم من حريته المراجعة السريعة والفعالة من جانب القضاء تلافيا "لكافة أشكال الحبس غير القانوني".(2)

وتقول إدارة بوش إن الأمن القومي - بمعنى ضرورة شن "حرب شاملة على الإرهاب" - يبرر هذا المسلك. وبالطبع لا نكاد نجد حكومة لا تتذرع بمسألة الأمن القومي تبريرا للقبض على الأشخاص أو اعتقالهم بصورة تعسفية أو غير قانونية، ولا نكاد نجد حكومة لا تقاوم المراجعة القضائية أو العامة لمثل هذه الإجراءات. لكن إجراءات الإدارة الأمريكية تثير الانزعاج الشديد بوجه خاص، وقد يكون الضرر اللاحق بسيادة القانون في الولايات المتحدة من جرائها أكثر دواما لصعوبة التنبؤ بانتهاء خطر الإرهاب الذي تصر الإدارة على أنه يستدعي ما تتخذه من إجراءات، كما أنه من المستبعد أن ينهزم الإرهاب العالمي في المستقبل المنظور. فهل تنوي الحكومة الأمريكية أن تبقي المحتجزين بدون محاكمة رهن الاعتقال بقية حياتهم؟ وهل تنوي أن تمنع العامة من معرفة من ألقي القبض عليه حتى تضع آخر إرهابي من الإرهابيين خلف القضبان؟

إن سياسات الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب لا تتناقض فقط مع المبادئ الراسخة في البنية السياسية والقانونية للولايات المتحدة، ولكنها تتناقض أيضا مع مبادئ حقوق الإنسان العالمية. إذ يمكن أن نفهم الالتزامات الحكومية العديدة المنصوص عليها في معاهدات حقوق الإنسان على أنها التزامات بمعاملة الناس معاملة عادلة. وتتبدى ضرورة العدالة في أظهر صورها فيما يتعلق بالحقوق المعرضة للمساس بها أكثر من غيرها بسبب السلطات الجبرية أو العقابية التي تتمتع بها الحكومة، مثل حق الحرية الشخصية. ويقر قانون حقوق الإنسان بأن الحرية الفردية يجب ألا تترك لأهواء الحكام الجامحة دون قيد أو شرط. ولكي يتم وضع قيود على الاستخدام التعسفي أو الخاطئ لسلطة الاعتقال التي تتمتع بها الدولة، ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي انضمت إليه الولايات المتحدة، على ضرورة أن تفصل المحاكم - لا السلطة التنفيذية - في قانونية الاعتقال.(3) كما يضع العهد ضوابط معينة لإجراءات المحاكمة متى كانت حرية الشخص مهددة بالخطر، ومن بينها علنية وقائع المحاكمة. وحتى لو كانت هناك حالة طوارئ معلنة رسمية فيجب أن تكون القيود على الحق في الحرية "مقصورة تماما على الحد الذي تقتضيه ضرورات الموقف".(4)

إن العدالة لا يمكن أن تتحقق بدون احترام حقوق الإنسان. وكما تنص ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإن "الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم". ويقر الخطاب الذي تستخدمه إدارة بوش بحقوق الإنسان، ويصر على أن مكافحة الإرهاب حرب للحفاظ على "المطالب التي لا تقبل التفاوض، وهي الكرامة الإنسانية وسيادة القانون والضوابط على سلطة الدولة والعدالة القائمة على أساس المساواة"، وذلك كما قال الرئيس بوش في حفل تخرج دفعة الأكاديمية العسكرية في ويست بوينت في يونيو/حزيران 2002. لكن الإجراءات التي اتخذتها إدارة بوش تتعارض مع هذه الكلمات النبيلة. إذ إن ممارسات مكافحة الإرهاب التي تتبعها إدارة بوش تمثل في جملتها اعتداء مذهلا على عدد من المبادئ الأساسية، وهي العدل ومحاسبة الحكومة ودور المحاكم.

وليس من الواضح حتى الآن ما إذا كانت المحاكم سوف تسمح للسلطة التنفيذية بأن تمضي قدما في هذا المسعى. ففي مواجهة المقولات المتكررة التي ترددها الحكومة عن الأخطار التي تهدد الأمن القومي لو لم تفعل ما يحلو لها، أصبحنا نرى عددا من المحاكم على أتم استعداد للتخلي عن التزامها بمراجعة الإجراءات الحكومية وتعزيز الحق في الحرية. وهنا نتذكر أن المحاكم الأمريكية في أوقات الأزمات القومية السابقة فشلت أيضا فشلا ذريعا في حماية الحقوق الفردية - ومن أشهر أمثلة هذا العجز المشين عزل الأمريكيين اليابانيين إبان الحرب العالمية الثانية، الذي أقرته المحكمة العليا. ومع إحالة قضايا جديدة مترتبة على الإجراءات الحكومية إلى القضاء، لا يسع المرء إلا أن يأمل أن تقر المحاكم بالأخطار غير المسبوقة التي تتعرض لها حقوق الإنسان والعدالة بسبب تأكيد إدارة بوش على تمتعها بالسيطرة المنفردة على حياة كل من المواطنين وغير المواطنين وحرياتهم.