الفصل الثالث: الفضيحة والعار: محاكمات "كوين بوت"
في فجر يوم الجمعة 11 مايو/أيار 2001، داهم ضباط من نيابة آداب القاهرة مع ضباط مباحث أمن الدولة مرقص "كوين بوت"، وهو مرقص في باخرة ترسو على شاطئ النيل[42] وألقوا القبض على نحو 36 رجلا من رواده.
نشرت الصحف أن الموضوع يحتوي على قضية كبيرة، وأعلنت أنباء القبض على مايزيد عن خمسين عضوا من "جماعة لعبادة الشيطان" كانوا يمارسون "الشذوذ" ويلتقطون "الصور العارية"[43] ، وقالوا إنهم قد قبضوا على عبدة الشيطان الشيطان "اثناء قيامهم بممارسة أعمال مخلة و هم عرايا داخل الصالة"[44] وأن الحفل كان "حفل زواج بين شابين والعياذ بالله"[45]
وعلى مدى ستة أشهر، ذكرت عناوين الصحف اسماء هؤلاء الرجال، وظهرت وجوههم لدى بائعي الصحف. وأصبح السلوك المثلي محورا للاهتمام بشكل لم يسبق له مثيل، و اتخذ ذلك الاهتمام شكل النقد اللاذع مع الإثارة الشهوانية في الصحف. وجرت محاكمة اثنين وخمسين رجلا أمام محكمة أمن الدولة طوارئ، وحوكم شاب حدث أمام محكمة أحداث. ووجهت للجميع تهمة "اعتياد ممارسة الفجور"، وصدرت احكام ضد أقل من نصف العدد بقليل. تعرض معظمهم للتعذيب أثناء الحجز. ودُمِّرَت حياتهم جميعا.
"الأهالي طلبوا مننا نخبي وشوشنا علشان الجيران وقرايبنا من بعيد ما يعرفوناش، أول ما عرفوا إن حيكون فيه صحافة كتير كدة في القضية".[145] وبدا المتهمون في ارتداء أقنعة انتزعوها من ملابس السجن البيضاء. وعندما نشرت الصحف العالمية هذه الأقنعة، غدت رمزا في كل العالم لجو الفضيحة والعار الذي يحيط بالقضية. وحسب أقوال أحد المتهمين: "بعد الجلسة الأولى، كانوا في السجن بياخدوا منا كل حاجة إلا هدومنا علشان ما نغطيش وشوشنا في المحاكمة. كانوا عايزين وشوشنا تبقى متشافة. كانوا يدخلوا الزنزانة وياخدوا مناديلنا، وحتى المناديل الورق كنا بنخبيها علشان العساكر ما يلاقوهاش".[146]
|
اطّلعت هيومان رايتس ووتش على ملفات النيابة و ملفات امن الدولة التابعة للقضية، وأجرت مقابلات مع 21 متهما فيها، بالإضافة إلى العديد من أصدقاء و أقارب و محاميي المتهمين، ومع قاض واحد في القضية. وبالرغم من أقاويل الادعاء بأن "الطائفة" قد ألقي القبض عليها في المركب، إلا أن من قبض عليهم فيها لم يكونوا إلا ثلاثين رجلا من الثلاثة و خمسين الذين حوكموا. أما أغلبية الباقين فألقي القبض عليهم في عرض الطريق –من خلال المرشدين- قبل 11 مايو/أيار.[46]
كان المتهم الأول في هذه القضية شريف فرحات، وهو رجل أعمال تربطه صلتي القرابة والزواج بشخصيات مصرية بارزة. ألقت قوات امن الدولة القبض عليه قبل اعتقالها للآخرين بأسابيع. وألقي القبض أيضا على عدد صغير من زملائه في العمل و معارفه، أما بقية الأشخاص فلم يكن يعرفهم شريف إطلاقا، وقد اصطادتهم الشرطة ولفقت لهم التهمة لكي تخلق وهم "الطائفة" المثلية.
يؤمن الكثيرون من أسرة شريف فرحات بإنه وقع ضحية ثأر سياسي كان يستهدف أقاربه. وقال أحد المتهمين المسجونين معه إن شريف فرحات أطلق على المحاكمة "ماتش انتقام بين عيلتين كبار في البلد" [47]. والشئ الوحيد الذي يمكن التأكد منه هو إن الادعاء قد نسج حول شريف فرحات قصة جمعية متآمرة من الشواذ تحيط به، واستخدموها لتشويه سمعته.
لكن القضية كانت لها نتائج أبعد من سمعة شريف الضائعة ومن خراب ديار زملائه في القضية الذين لم يكن الموضوع على بالهم. من هذه النتائج إن ظاهرة المثلية أصبحت محط الأنظار في المجتمع المصري وفي سياسته، بصفتها دربا من دروب الفساد التي علت الأصوات تنديدا بها.
لم تكن تلك القضية أول ولا آخر إجراء تتخذه السلطات ضد السلوك المثلي بأي حال من الأحوال، إذ سبقتها وتلتها عدة قضايا. ولكنها كانت بمثابة نذير يحذِّر رجال الشرطة وأفراد الشعب على حد سواء من أن السلوك المثلي يقوض الأمن القومي و الأديان. وكانت القضية بمثابة إعلان للضباط إن مثل هذه الحملات قد تفيدهم في مستقبلهم المهني.
كان المتهم الأول شريف فرحات البالغ من العمر 32 عاما، وهو مهندس ورجل أعمال ثري من عائلة لها علاقاتها السياسية. وقال أفراد أسرته لهيومان رايتس ووتش إنه كان يهوى التصوير الفوتوغرافي، وإن أعماله عرضت في عدة معارض، وإنه كان متدينا وحج إلى بيت الله الحرام.
ألقت قوات مباحث أمن الدولة القبض على شريف فرحات في يوم 24 أبريل/نيسان 2001. وقال أفراد أسرته لهيومان رايتس ووتش إن الضباط كانوا قد داهموا شقته قبل القبض عليه، "وأخذوا كل ملفاته، كل صوره وكتبه، كل حاجة". بعد ذلك استدعت قوات الأمن شريف إلى نيابة أمن الدولة بلاظوغلي لكي يسترد ممتلكاته "وما طلعش أبدا".[48]
لايزال شريف فرحات رهين الحبس، ولم تتمكن منظمات حقوق الإنسان من التحدث إليه.[49] لا نجد سجلا لما حدث له إلا في المحاضر التي دونها وكلاء النيابة أثناء استجوابه –وقد تكون تعرضت للتحريف أثناء تدوينها.
توحي هذه المحاضر بأن أمن الدولة كانت تراقب شريف لمدة أسابيع. ويذكر أحد وكلاء النيابة إن شريف فرحات ذكر إن أول استجواب له على أيدي ضباط الأمن حدث في 12 أبريل/ نيسان، وإنهم أفرجوا عنه –ولكنه قبل الإفراج عنه، قص عليهم- بشكل لا يتناسب مع سائر الحديث – حلما رآه منذ 15 عاما، رأى فيه محمدا صلى الله عليه وسلم يزوره غلام أشقر. وفي الحلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم إن ذلك الغلام كردي، وإنه –بعد هجوم تركي في المستقبل، "هيفرون [كذا] في الجبال؛… هذا الغلام…سيظهر… وينتقم من العالم أجمع اليهود والمسيحيين والمسلمين… لأنهم لم يحاولوا منع الهجوم التركي على الأكراد".[50]
وقد أصبحت هذه الرؤية العجيبة "للغلام الكردي" محور القضية.
وأيا كانت الدوافع وراء اهتمامهم الأولي، يتضح من الملفات إن رجال أمن الدولة تبينوا إن شريف فرحات مثلي. وبذلك أصبح السلوك المثلي هو الجريمة التي نوت امن الدولة استخدامها في نسج قضية ضده. لكن الفجور لا يبرر تقديم صاحبه للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة، اذ انه جريمة أخلاقية. ومحافظة على نطاق سلطتهم، عرَّف المحققون رغباته المثلية على إنها مباديء لمنظمة مُجَدِّفة ، وبذلك يمكن مقاضاته بتهمة "ازدراء الأديان السماوية" بموجب المادة 98 (و) من القانون الجنائي، أي كقضية أمن دولة.
وبعدها بدأ الضباط في استجماع الأدلة على وجود المنظمة –ويقول الضحايا إنهم كانوا يلفقونها.
لم تظهر في المحكمة أي من المواد التي زعم ضباط أمن الدولة إنهم وجدوها أثناء تفتيشهم لبيت شريف فرحات. والدليل الوحيد على وجودها هي القوائم التي استجمعها رجال أمن الدولة ووكلاء نيابتها. وفيما يزعم، اكتشف الضباط عدة نسخ من كتيب يبلغ 29 صفحة عنوانه "وكالة الله في الأرض: ديننا دين قوم لوط، ونبينا ومرشدنا أبو نواس"، مما يربط ما بين الفكر الديني و المثلية الجنسية.[51] ومن عناوين فصول النص: "عالمنا – لماذا قوم لوط – شريعتنا بإختصار– أناشيد مثلية – أوامر ونواهي".[52]
وَرَد في محاضر استجواب أمن الدولة إن شريف فرحات اعترف بأنه "أنشأ وكالة الله، رب الجنود"، وإن أحد زملاءه في العمل، وهو محمود دقلة كان قد بنى مصلى لهذه الوكالة[53]. وبعدها قال شريف لأحد الصحفيين وهو داخل قفص الاتهام في إحدى جلساته إنه كان يتعرض للاستجواب لمدة "تزيد عن ثلاثة أسابيع معصوب العينين. لم أرَ من كانوا يستجوبونني ويضربونني … الكهربة … هذا هو أول شيء أقوله لكم.. ليس لي فقط، لكن للآخرين أيضا".[54]
بعد ذلك في نفس شهر أبريل/ نيسان، ألقت قوات أمن الدولة القبض على محمود أحمد دقلة (23 عاما) [55] كما وجد الضباط صورا [56] فوتوغرافية في شقة شريف، حُصر عددها فيما بعد على إنها 893 صورة،[57] من بينها عدد غير محدد من المشاهد لـ "رجال وفتيان عارين". وفي بعض الصور –فيما يُزعم- يظهر شريف "وهو يمارس الشذوذ الجنسي، ويظهر وحده في صور أخرى".[58]
في هذه المرحلة، طلبت أمن الدولة المساعدة من شرطة الآداب. وفي أوائل مايو/آيار، تعرف ضباط شرطة الآداب على مكان أحد الرجال ممن كانوا في الصور الفوتوغرافية.[59] ثم بدأت شرطة الآداب في تجميع أعداد ممن يشكون في إنهم مثليين للأضافة للقضية.
قال بشار، وهو ميكانيكي سيارات في منتصف العشرينات من عمره، مخاطبا هيومان رايتس ووتش:
كنت أعرف شريف .. كان بييجي الورشة بتاعتي … في يوم جالي وقال لي: "أنا عامل عيد ميلادي و انت معزوم". ورحت. كان هناك فيه بيرة و خمور، وناس كتير معظمهم رجالة … وفيه صور اتاخدت لي وأنا شارب.[60]
ومرت الأعوام، وفي 2 مايو/ آيار 2001، أُلقي القبض على بشار، الذي يقول:
الحكومة جت خدتني من الشغل، من الورشة، بمعرفة واحد اسمه مصطفى "ليلى علوي". ده مرشد … بيسوق تاكس، سوزوكي سويفت، أنا صلحته له قبل كدة. في أي قضية فجور بيستخدموا النوعية دي علشان يلموا. عموما اللي حصل إنهم وَرُّوا مصطفى الصور وهو قال لهم "ده بشار". كان لازم يضربوني علشان يدخلوني البوكس.
وأخذوا بشار إلى قسم شرطة عابدين، حيث قابله عميد مكافحة الآداب بالقاهرة. يقول بشار:
طه إمبابي طلب مني أنزل أرشد له، ألم له ناس. قلت له أنا ما أعرفش حد. بدأ يضربني. طه الإمبابي عنده كرباج حاطه في "نيش" جنب مكتبه في عابدين. جه في صباع إيدي الشمال الصغير وموش باعرف أستخدمه لغاية دلوقت. كان الكرباج نازل على راسي فرفعت إيدي علشان احمي راسي. إتقطع العِرق في صباعي و كان عمال ينزل دم آد كدة … الكرباج لسة سايب علامات في فروة راسي، علامتين.[61]
وراني الصور وقال لي: "دي صور متاخدة لك". … وقال لي: "ما تخافش، إنت ح ترَوَّح، كل اللي عليك إنك تجيب لنا خولات". … كنت باتضرب طول النهار في قسم عابدين لمدة 3 أيام. كنت باتضرب فترة من كل يوم.
ووافق بشار على أن يعمل مرشدا. لم يُطلب منه ذلك إلا بعد قرابة أسبوع قضاه في الحبس. وفي يوم الأربعاء الموافق 9 مايو/آيار، بدأت شرطة الآداب في إلقاء القبض على المارة في الشوارع من الرجال الذين يشتبهون في أنهم مثليين، وإيداعهم قسم شرطة عابدين. وقال بشار إن الضابط قال: "إحنا بس محتاجين شوية ملح في الطبخة علشان تطلع حلوة".
حكى بشار لهيومان رايتس ووتش عن جدول أعمال المرشد. قال أنهم أرسلوه في ميكروباص إلى الطريق العام بصحبة مصطفى "ليلى علوي"، ومعهما ضابط آداب وثلاثة ضباط من أمن الدولة، قال عنهم بشار: "أنا اتصاحبت على واحد منهم … ده حتى قال لي: "القضية دي مافيهاش أي دليل وانت اتاخدت فيها". " ويضيف بشار:
بدأنا حوالي الساعة 7 بالليل. قعدنا نلف نلف يجي ساعة. ما فيش حاجة. بعدها ركننا قدام كافيتيريا الأمريكين اللي في تقاطع 26 يوليو وطلعت حرب. دي منطقة فيها تعليق كتير. فنزلت الشارع وواحد أعرفه اسمه علاء سلم عليا. قاللي إزيك يا بشار. وفجأة كلهم نزلوا عليه، وعلاء ده كان معاه واحد تاني، كانوا فجأة فوق روسهم هما الاتنين. والولد التاني ضربوه في الشارع. وسألوني: "تعرفه؟" قلت لهم ما عرفوش. بس، حطوه في الميكروباص.
الضباط كانوا تعبوا. لفينا رجعنا على عابدين. بعدين مصطفى "ليلى علوي" قال: "أهُم اتنين كمان أعرفهم". نزلوا مسكوهم. واحد منهم كان اسمه حسن [اسم مستعار] جري منهم، جريوا وراه مسكوه ضربوه وجرجروه تاني جوة الميكروباص … ضربوه قطعوا هدومه. بعدين رجعنا عابدين.
وقال حسن، وهو شاب في منتصف العشرينات من عمره يعمل في إصلاح الأجهزة الكهربائية: "واحد "جاي" أعرفه شاور عليا. هو كمان في القضية، اسمه بشار. ضربوني، كانوا بيعاملونا زي الزفت".[62]
ويتذكر بشار إن: "طه الإمبابي كان مهتم بالعيال. قال: "أنا عايز ناس من 17 لـ 20 سنة". كما أراد طه الإمبابي أن يجد الشخصيات الموجودة في الصور الفوتوغرافية. قال بشار إنه في صورة من الصور: "كان فيه واحد أعرفه اسمه تامر. وطه الإمبابي قال لي يا بشار لو جبت لي تامر ده ح أسيبك إنت وآخده هو". ويضيف بشار:
رحنا قهوة في السيدة زينب. مالقيناش تامر، بس لقينا واحد تاني كنت أعرفه. سألته هو تامر فين؟ قال لي إن معاه تليفونه وممكن يكلمه. و اتصل بتامر، بس تامر ما ردش. قاموا واخدين الولد ده.[63]
وفي نفس الوقت، في الأيام التي سبقت العاشر من مايو/آيار، استغلت الشرطة نفس المرشدين في القبض على أشخاص آخرين، وأقتادوهم لقسم شرطة آخر في وسط البلد: قسم شرطة قصر النيل. وقد قال لنا كمال –وهو شاب في أواخر العشرينات من عمره يعمل ماسحا للأحذية بالقرب من محطة القطار بميدان رمسيس:
أخدوني من على العدة بتاعتي جنب رمسيس. كانت الساعة بتاع 5 بعد الضُهر … ناس كتير بيلموها كدة على طول. الظابط قاللي "تعالى … بطاقتك".
دخلت العربية وفيها ناس كتير، مش عارف كام واحد، شباب كتير. كان معاهم كوديانة. كانت تقول للظابط :"ده خَوَل". جابوني كدة. كانت اسمها مصطفى "ليلى علوي".
قعدوا يلفوا لهم كام ساعة على رمسيس و التحرير و 26 يوليو بيلموا. بعدين خدونا على قسم قصر النيل. كل الوقت ده وأنا مش عارف حاجة. خلونا نِبات في أوضة كدة تحت بير السلِّم … وفي القسم قالولي: "إنت خول؟ قلت لهم لأ. قام الظابط قال: "الكوديانة دي بتقول عليك خول". بعدين ضربوني.[64]
في هذين اليومين، الثلاثاء والأربعاء، كان هناك ستة أو سبعة محتجزون في قسم قصر النيل بشبهة المثلية. وأخذوا رجلا منهم إلى قسم شرطة عابدين لفحص صحيفة سوابقه. وهناك التقى ببشار، وكانت بينهما معرفة سابقة. شاهد بشار استجواب ذلك الرجل، ووصفه لنا بقوله:
طه الإمبابي قال له: "هات لي شوية أجسام وأنا اسيبك". الراجل ده قال: "أنا أعرف واحد اسمه وحيد [اسم مستعار]؛ وهو شهير بـ "أنيميا". واتصل بيه في يوميها –كان يوم أربع- من مكتب طه الإمبابي، وأخد منه ميعاد يتقابلوا. قال له: "ح استناك على المحطة بتاعة شبرا". قال له إن الحكاية فيها شغلانة [وظيفة]. وحيد جري منهم، بس جريوا وراه ومسكوه. كنت أنا موجود المرة دي".[65]
وقد أجرت هيومان رايس ووتش مقابلة مع وحيد. وهو أيضا شخص أمي، يبلغ عمره 22 عاما، يسكن قرية قرب القاهرة، ويعمل سائقا. وأثناء سرد وحيد لحكايته، بكى وهو يقول:
كنت رحت المركبة "كوين بوت" أربع مرات قبل ما أتاخد. إتعرفت على شوية ناس، وبس. يوم ما اتمسكت جالي تليفون من واحد كنت قابلته في المركب. قال لي فيه صديق مشترك عايز يقابلنا احنا الاتنين.
أول ما نزلت من الميكروباص لقيت حواليا خمسة بيضربوني. واحد من بتوع تنفيذ الأحكام من قسم شبرا اتدخل وسألهم بيعملوا كدة ليه، قالوا له إبعد مالكشي دعوة. قاموا أخدوني للميكروباص بتاع الشرطة. لما دخلت لقيت 3 غيري.
التلاتة دول طلعوا مرشدين. وبرضه اللي اتصل بيا علشان يقابلني. هو كان في الشارع علشان يقابلني آه، بس برضه خدوه. ودخل معايا العربية أنا والمرشدين التلاتة. واللي ضربوني دول كانوا عساكر لابسين ملكي.
وبعدين رحنا بولاق. المرشدين راحوا جابوا حد من ع القهوة. وفي بولاق برضه جابوا واحد من بيته.[66]
وقال بشار: "أنا أعرف اتنين من بولاق جبتهم".[67]
وفي نفس الجولة أُلقي القبض على مراد، الذي قال لهيومان رايتس ووتش:
أخدوني حوالي 10 بالليل، من شارع 26 يوليو. كان فيه عساكر وظباط كتير لابسين ملكي ومعاهم ميكروباص. أخدوني أنا بس و ماخدوش صاحبي اللي كان ماشي جنبي، ومش عارف ليه. كانوا بيلفوا وبيلموا الناس واحد واحد. العربية كان فيها مرشد، وكان بس بيخلليهم يلموا "الجاي" عموما. العربية كانت بدأت أصلا تتملي. أنا مش فاكر كان فيها كام – عالأواخر كنا قاعدين على حجر بعض. العربية قعدت تلف لغاية 2 الصبح.
أنا عندي تلاتين سنة. أنا معايا الإعدادية. أنا عايش مع أمي، وأبويا متوفي. أنا بس نِفسي أعرف هم ليه شافوا إني خطير للدرجة دي إني لازم يعملوا فيا كدة.[68]
وفي اليوم السابق لمداهمة "كوين بوت" كانت قوات امن الدولة بالفعل تقبض على رجال آخرين لهم صلة بشريف فرحات. منهم بسام، الذي يعمل في صالة ألعاب رياضية بالجيزة، وكان قد اعطى شريف فرحات جلسة تدليك (ماساج) قبلها بأقل من أسبوعين. قال بسام لهيومان رايتس ووتش: "كانت أول مرة أشوفه فيها. سألني: "إسمك إيه؟ والواحد علشان يبقى عنده عضلات زيك كدة بياخد قد إيه؟". ومشي". ويضيف بسام:
بعدها بحوالي عشر أيام، جالنا ظابط في الصالة بالليل … قال فيه ظابط رتبته كبيرة قوي في قسم الدقي وسألهم لو ينفع آجي. قال لي صاحب الصالة: "روح، آهو ده ممكن ينفعنا لو حصل واحتجنا حاجة من القسم". خرجت مش واخد خوانة خالص، عادي جدا. كان فيه ميكروباص بتاع الشرطة برة، وجواه ظابط لابس نضارة شمس، وقالوا لي إن هو ده. قال لي "إدخُل الميكروباص"، وطلع.
أخدوني استوديو تصوير في المهندسين. أخدوا 4 من هناك. ما كنتش فاهم إيه اللي بيحصل خالص. بعد ما أخدوا الأربعة، راحوا العجوزة … أخدوا واحد من هناك. كان يادوب قاعد في الشارع بيصلح الموتوسيكل بتاعه. [69]
كان الرجال الأربعة يعملون بالاستوديو الذي يحمض شريف فيه صوره الفوتوغرافية، ويبدو أن أمن الدولة قررت أنهم متورطون في القضية. يبدو إن الرجل صاحب الدراجة البخارية كانت له صورة واحدة على الأقل. كان عمره 24 عاما عند القبض عليه، ويدعى يوسف، وكان ميكانيكي سيارات من أسرة من الطبقة العاملة. وقال مخاطبا هيومان رايتس ووتش:
الحكاية دي مع شريف كانت مجرد مغامرة. الحكاية دي كانت في 1996، في السن دي بتحب تعمل مغامرات … كنت أياميها بطل كمال اجسام. كنت باكسب جوايز. واللي حصل إني قابلت شريف علشان المكنة اللي معايا دي. اللي حصل إنه كان حايخبطني بعربيته. ولما نزلت من المكنة كنت حاضربه، بس هو هدَّاني: "يا سلام .. ده انت جسمك حلو" و مش عارف إيه، واتكلمنا شوية في كمال الأجسام. وقال لي إن هو مهتم بالموضوع ده وإنه ممكن يدخلني بطولات برة.
وقال وحيد:
"وأنا في مكتب وكيل النيابة سألوني عن عضويتي في منظمة عملها واحد اسمه شريف … أنا بعد كدة كلمت بقية الناس اللي محبوسين معايا و ما كانش حد فاهم الأسئلة دي بتتكلم عن إيه. سألوني لو كنت صنعت أسلحة أو طيارات. قلت لهم لأ، دا أنا ما باعرفش أقرا ولا أكتب، وما عنديش فكرة عن أي حاجة من دي. وبعدين سألوني على الشذوذ الجنسي. أنا كنت في حالة رعب، وفكرت إن التهمة دي أخف من الطيارات و الحاجات الأمنية. قمت اعترفت باعتياد ممارسة الشذوذ الجنسي".[103]
|
وبعدها بخمس سنوات –على حد قول يوسف:
إتاخدت من جنب بيتي. قالوا لي وهما بياخدوني: "كلها نص ساعة و ترجع". لقوني من المكنة بتاعتي. شريف كان قال لي لما خبط المكنة: "تعالى أوريك بيتي". قلت له: "تعالى عند بيتي الأول. لازم أسيب العجلة بتاعتي عند البيت". وبعدها بسنين قدر يقول لهم يوصلوا إزاي بيتي.[70]
وقال بسام:
أخدوا الناس دي ورحنا على قسم عابدين. كان معايا الزيت و الكريم بتوع الماساج، ووقفت مستني … طَلَّعوا شوية صور وبدأوا يبصوا علينا ويقارنونا باللي في الصور. كان فيها ناس قالعة و حاجات كدة.
وبحلول مساء الخميس 10 مايو/آيار، كان إجمالي عدد المحتجزين في قسمي عابدين وقصر النيل قد بلغ ما يقرب من عشرين شخصا. وتذكر اثنان من المتهمين من معارف شريف فرحات إن الشرطة واجهته بهما. قال بشار لهيومان رايتس ووتش: "كانوا مموتينه من الضرب، كان وشه وارم. كانت عينيه مربوطة وإيديه متكلبشة ورا ضهره … كانوا جابوه عابدين بس علشان أتعرف عليه وعلشان يوروه لطه الإمبابي".[71] وقال يوسف:
أنا ماعرفتوش. كان شكله اتهرى. الحكومة دي ما بترحمش. تقول صباح الخير – تنضرب. كان تحت عينيه إسود، كانت هدومه مقطعة ومبهدلة، ووشه وارم وكله كدمات. وقال لنا بعد كدة إنهم كهربوه.[72]
وعلى النقيض من ذلك، لم يعرف معظم المحتجزين حتى ذلك الحين من هو شريف فرحات. وفي نفس الوقت، كان رجال الشرطة يخططون لزيادة عدد المتهمين بعضوية المنظمة من خلال مداهمة مركبة "كوين بوت" نفسها.
يتذكر من كانوا ليلتها في المركب أدق التفاصيل التي أدت إلى وجودهم في المكان غير المناسب في الوقت غير المناسب. كان زياد يبلغ من العمر وقتها 22 عاما، وكان قد أتى إلى القاهرة من الأقاليم بحثا عن عمل. وأقام فيها لدى صديق عربي. قال زياد:
أنا حاقول لك حاجة غريبة. يوميها انا ما كنتش ناوي أخرج. عندي زي حاسة سادسة – كنت في شقة صاحبي ده وكنا خارجين. كان فيه واحدة قريبته موجودة وطلبت منا ما نخرجش، وقعدت تترجانا. لكن لأ – كنا عايزين نخرج.
مش عارف أصلا إيه اللي حط في دماغنا نروح الكوين بوت. إحنا وصلنا هناك على واحدة الصبح. واحنا رايحين على هناك أنا حتى شفت شوية عربيات شرطة براها، بس ما كنتش عارف هما إيه – كانوا شبه عربيات التليفزيون. وبعدين حصل اللي حصل.[73]
أما حسين فكان يبلغ من العمر 23 عاما، ويعمل في توصيل الطلبات إلى المنازل بأحد المحال. وكان خجولا، مهذبا، دمث الخلق. وقد قال لهيومان رايتس ووتش:
"كانت تاني مرة بس أروح فيها "كوين بوت" … قبل كدة أنا كنت عايش راضي الحمد لله. أنا مش مكمل تعليمي، مخَلَّص رابعة ابتدائي، يادوب بافك الخط … رحت هناك علشان أرقص. ما كنتش أعرف المركب غير عن طريق واحد صاحبي اسمه سعد، اتمسك معايا هناك. صاحبي اتفق نتقابل يوم خميس، ورحت كوين، و عرَّفني بأصحابه، وانبسطت قوي لما قابلتهم. وقالوا تعالى ارقص، ورقصت. فانبسطت قوي ليلتها ورحت تاني".
وأنا بارقص على "البيست" كان فيه شوية ناس بتبص لي بصات غريبة. رجعت الترابيزة اللي كنت قاعد عليها وصممت أرَوَّح. وأنا خارج، طلع لي واحد قال لي "بطاقتك". طلعتها له وإديتهاله. بص عليها و زقني، وأجبروني أقعد على جنب".[74]
أما سعد، صديق حسين فهو طالب جامعي، وقد قال لهيومان رايتس ووتش:
"كان فيه اتنين من قسم عابدين –ويمكن أكتر من اتنين- قاعدين في الديسكو كإنهم زباين عاديين. فطلعوني برة. قالوا لي: "نص ساعة و ح تكون مروَّح بيتك". النص ساعة دي خدت سنة".[75]
أما الأجانب، فعادة ما كان يُفرَج عنهم. يتذكر عمرو، وهو مدرس لغة إنجليزية، إنه كان موجودا في المرقص بصحبة مديره الإنجليزي الجنسية. قال عمرو:
"شفت اتنين على الباب بيشوفوا بطايق الناس … بعدين دخلوا ظباط لابسين ملكي، وبدأوا يقبضوا على كل الناس إلا احنا، علشان كانوا فاكريننا أجانب. وبعدين صديقي كيفن ناداني بصوت عالي علشان يقول لي إنه مروح. ساعتها البوليس سمع إسمي إنه مصري، وطلبوا بطاقتي. إديتها لواحد، خدها و خرج، وبعت حد يقبض عليا. لما خرجت لقيت تلات عربيات كبيرة مليانة ناس".[76]
وقال فيصل، وهو رجل متزوج كان موجودا في المرقص:
"من كتر ما الأوتوبيسات كانت مليانة حطوا شوية مننا في عربيات ملاكي بتاعة ناس كانوا في المركب، وراحوا بيهم قسم عابدين. كان فيه عربيتين ملاكي على الأقل. و الظباط كانوا عارفين أصحابها، وشكروهم وروحوهم. أكيد كانوا مرشدين … فيه ناس من اللي متاخدين معانا قالوا إنهم عارفين أصحاب العربيات، قالوا إنهم شغالين مع البوليس وإنها مش أول مرة يساعدوهم في تلفيق القضايا".[77]
وصل نحو 40 متهما إلى قسم شرطة عابدين في حوالي الثانية صباحا. وأُرغِموا على الركوع. ويتذكر أحدهم أن "الظابط الكبير بتاعهم كان باين عليه إنه مستمتع قوي وهو شايفنا بننضرب وخايفين".[78]
وقال زياد:
"الظابط ده جالنا، وكان باين عليه "سايكو" [أي مجنون]. بدأ يزعق ويشتم فينا. قال لنا: "عايز الخولات تيجي هنا في ناحية والناس الطبيعية تيجي في ناحية". وسكت لحظة وبعدين قال: "طبعا إنتو ما فيكوش ناس طبيعيين، إنتو كلكم خولات".
وأضاف زياد:
"فيه ظباط تانيين جم لنا و ندهوا علينا نطلع لهم واحد واحد يتفرجوا علينا. أنا كنت من أوائل الناس اللي ندهوا عليهم. كنت لابس كويس، بس هو كان شايف إن لبسي "ممرقع"، رغم إني كنت لابس "بادي" و جاكيت وبنطلون جينز فيه وردة صغيرة قوي من تحت خالص عند الرِجل. هم طول الحكاية دي كانوا شايفيني مايص، فكنت دايما باتعامل معاملة خاصة. بعد كدة خلاني أقلع البنطلون علشان يشوف أنا لابس إيه من تحت. كان معجب قوي بملابسي الداخلية، وقال: "طبعا انت خول". قلت له: "طبعا لأ". وبعدين قام نازل عليا ضرب بوحشية … باللكاكيم وبالخرطوم. ضربني على ضهري بالخرطوم. قعد يضرب، يضرب … الفترة دى مش حانساها أبدا".
وكاد زياد يبكي وهو يضيف قائلا: "انت عارف … صعب قوي تبقى "جاي" في مصر".[79]
أما سعد فقال:
"في الأول كانوا مقعديننا كلنا على ركبنا. وكان الظابط قدامنا، وقال: "إنتو كدة بتشتموني. إنتو قعدتكم كدة بتشتمني". وبعدين ابتدوا يبصوا يشوفوا إحنا لابسين إيه من تحت. كانوا بيخلونا نِوَريِّهم اللباس بالعافية، كانوا يمسكوا البنطلون زيمزعوه … ولو الحاجة الداخلية دي ملونة، تبقى انت كدة".
كان سعد يرتجف من فرط التوتر و الإحراج وهو يتذكر:
بدأوا يقولوا: "ولا يا خول إنت بتاخد ولا بتدي؟" وكانوا ياخدوا كل واحد منا ويوروا اللبس الداخلي لبقية الظباط. وبعدين يدوك على قفاك، أو على ضهرك، ويقولوا: "إلبس يا خول". و الظابط اللي عمل كدة كان طه الإمبابي".[80]
وقال وهبة[81]:
"ضربوني على قفايا ضرب جامد جدا". ويتذكر حسين الموقف قائلا: "إحنا هناك إتهانا جامد. ماحدش في حياتي قال لي أي حاجة زي اللي اتقال لي ده. الحاجات اللي قالوها لنا دي ما ينفعش أكررها".[82]
وقال بشار:
"أنا قلت قدام وكيل النيابة إني اتضربت. وريته آثار الكرباج على ضهري وعلى صباعي. وكيل النيابة قال للكاتب: "إثبت عندك إن المتهم حضر قدامنا لابس فانلة" -و كَرّ كل الهدوم اللي كنت لابسها- "وإننا لم نجد إصابات".[107]
|
وقال أحد المساجين لمندوب هيومان رايتس ووتش:
"محمد المرجاوي بتاع أمن الدولة كان قاعد في كرسي وبينده على الأسامي من البطايق الشخصية اللي كان ماسكها في إيده. لما سمعت إسمي رحت وركعت قدامه. وسألني: "إنت خول؟" لما قلت لأ ما عرفتش الضرب اللي نزل على ضهري ورقبتي و دماغي ده كله كان جاي منين … الظابط فتح قميصي وبص على صدري. سألني: "إنت بتحلق شعر صدرك؟" قلت له: "لأ، أنا طبيعتي كدة". طول ما انا باتسئل الضرب ما بطلش".[83]
وقال ضحية أخرى لهيومان رايتس ووتش:
"كانوا بيضربونا بخرطوم الشيشة وشومة لها راس كبيرة. مافيش حد ما انضربش. كانت بطايقنا معاهم؛ هم يندهوا إسمك وانت تطلع لهم وهم يضربوك. أنا انضربت بالشومة وبميت إيد بتضرب. مش عارف مدة الضرب كانت قد إيه. انت بتحس بالزمن وهو بيجري، بس وأنا باتضرب وقف الزمن[84].
أما بسام، بطل كمال الأجسام، فلم يتعرض للأذى، فقد حكى لنا قائلا:
"شفتهم و هم بينضربوا، لكن أنا ما ضربونيش. ضربوا الناس جامد. شفت ناس كتير كان الكرباج معلم في ضهرها وسايب جروح منزلة دم. أصل أنا عندي عضلات، شكلي راجل. العساكر كانوا بيحترموني. طول المدة كانت المعاملة معايا حاجة تانية غير بقية الناس".[85]
وجرى الإفراج عن عدد ممن كانوا محتجزين في قسم شرطة عابدين، بما في ذلك تسعة من عرب الخليج، بالإضافة إلى المصريين ممن لديهم "واسطة". وفي نفس الوقت، ظل المحتجزون الذين جرى القبض عليهم في الطرق العامة محتجزين في جزء مختلف داخل قسم شرطة عابدين. كما جرى الإفراج عن بعض المرشدين، بما فيهم مصطفى "ليلى علوي". وظل الآخرون محبوسين على ذمة القضية، بما فيهم بشار. وقبل ذلك –في النهار او في الليل- انضم إلى هذه المجموعة خمسة أو ستة أشخاص كانوا محتجزين في قسم قصر النيل. وكان كمال ضمن من أتوا بهم من قسم قصر النيل. قال كمال: "طلعونا الدور الخامس في عابدين. قالوا لنا كله يقلع هدومه. قلعونا بالعافية، وبصوا على هدومنا الداخلية. كانوا بيضربونا علشان نقول إننا خولات. لو نفينا كنا بننضرب. الضرب كان جامد".[86]
وفي يوم 21 مايو/آيار، قبل الفجر بقليل، زج بجميع الرجال في عربات الشرطة من جديد. و التقى ضحايا "كوين بوت" بالمقبوض عليهم من الشارع للمرة الأولى. قال وحيد، الذي قبض عليه في شبرا: "لقينا بتاع تلاتين واحد في البوكس. ما حدش كان عارف الناس التانيين جم منين، ولا احنا رايحين فين".[87] وأخذتهم السيارة إلى قسم شرطة الأزبكية، وقضوا اليوم التالي و الليلة التالية فيه.[88]
وفي يوم الجمعة 11 مايو/ آيار، اضطر الرجال لأحتمال المزيد من الإذلال. قال زياد:
"الصبح بدأوا ينادوا علينا بالإسم. طه الإمبابي طلعنا من الزنزانة، وكان بيقول: "محتاجين صوتكم يا خولات، محتاجين صوتكم. كل خول منكم يطلع ويقول "أنا خول". و كلها نص ساعة و تكونوا مروحين". ودلقتي خلاص بقى عندي عقدة من كلمة "نص ساعة". اللي يقول لي حاقابلك كمان نص ساعة، أقول له بلاش، خليها 35 دقيقة أو ساعة إلا ربع. كله إلا نص ساعة".[89]
وقال وحيد:
"طه الإمبابي بدأ ينده علينا. كان رتبة كبيرة … كان طويل وعريض وقاسي … كان معاه جهاز كاسيت. وكان بيخللي كل واحد يقول بالعافية هو سلبي ولا إيجابي. وقال: "أنا بس عايز أعرف عدد الخولات –عدد الشواذ اللي تقرف- في مصر، أنا باعمل بحث ولازم أعرف، والحكاية كلها ساعة". الساعة دي خدت 13 شهر. فروحنا على الكاسيت واحد واحد وقلنا "أنا سلبي" أو "أنا إيجابي". اللي رفض كان بينضرب. أنا قلت إن أنا الإتنين، وانضربت.[90] "
وقال حسين:
"طلعنا من الحبس لمكتب الظابط. وفرحنا قوي، على أمل إننا ماشيين. بس طلع غير كدة خالص. الظابط شخط فينا وبهدلنا و ماحدش رَوَّح. طِلْعِت لعبة … طلب مني إنمي أقول إني "جاي". هي دي الكلمة اللي قال لي أقولها، قالها كدة. الكاسيت كان بيسجل. سألته: "يعني إيه "جاي؟" "، قام ضربني وقال: "بس انطق الكلمة اللي أنا قلتها لك". قمت قايل الكلمة دي. وبعدين طلعت من المكتب على أوضة ولقيت بقية المجموعة قاعدة".[91]
ويتذكر زياد:
"جه دوري. طه الإمبابي قال لي: "تعلى يا حلوة" … أنا آسف إني باتردد في الكلام، بس باتعب إني أحكي اللي حصل …. لما بأفتكر الموقف ده باتعب …"
"طه الإمبابي قال لي: "بص! ماتلعبش بينا". كان معاه جهاز كاسيت. "ياللا قول إنك سلبي علشان نسيبك" … ضربوني تاني علشان أقول. من كتر العياط ما كنتش قادر أتكلم في الميكروفون. ما كانش طه الإمبابي اللي بيضرب. كانوا الإتنين الحيوانات اللي معاه. مش بالخرطوم – باللكاكيم. وسجلت اللي كانوا عايزينه و طلعت من الباب؛ ولقيت كل الناس اللي خرجت موجودين وراء الباب".[92]
وقال وهبة: "ضربوني بالأقلام. وضربوني برضه على ضهري بخرطوم الشيشة. كانوا خمس أو ست ظباط بيعملوا ده".[93] أما سعد فيتذكر: "ما كنتش عايز أقول أنا سلبي ولا إيجابي. لو التسجيل ده له أي وجود أصلا حيبان فيه إن أنا كنت بانضرب[94]. كان معظم الضرب على الضهر، بالإيد أو بالخرزانة. ضربوني بالأقلام وباللكاكيم … أخيرا قلت لهم "أنا إيجابي".
بات المتهمون في قسم الأزبكية حتى اليوم التالي. وقال وحيد لهيومان رايتس ووتش: "دخل علينا ظابط أمن دولة. قال لنا: "أنا مش حاضحك عليكم. إنتو قضيتكم كبيرة جدا. أنا عايزكم تجمدوا و تستعدوا للي حايحصل لكم"[95]. واليوم اللي بعدها حمِّلونا تاني في عربية الترحيلات".
وقال زياد:
"ما كناش عارفين إحنا رايحين فين. لغاية ما وقف جدع طويل ورفيع كدة –اسمه وحيد و كنا بنقول عليه أنيميا- وقال بصوت غميق كدة زي الموت، يا ساتر: "السكة دي طريق أمن الدولة". كل البنات ياختي اتسرعت وقعدت تصوت! إيه الملافظ دي! إحنا عملنا إيه يستاهل أمن دولة؟! ما كناش مصدقين خالص، داحنا مش عاملين حاجة! قال لنا تاني: "الطريق ده طريق أمن الدولة". فسألنا العساكر. قالوا لنا: "حتعرفوا كل حاجة في وقتها". ووصلنا امن الدولة.[96]
وقال وحيد: "مشونا في طريق طويل. الطريق ده بالنسبة لي أخد سنين. وَدَّاني على نيابة أمن الدولة في مصر الجديدة".[97]
وداخل الزنزانة المظلمة في نيابة أمن الدولة، بدأت المجموعات المختلفة من المحتجزين في سرد قصص اعتقالهم على بعضهم البعض. قال أحدهم: "اكتشفنا إننا نوع من "الكوكتيل"[98]. وقال رجل آخر: "خدنا بالنا إنهم حطوا ناس من قصر النيل على ناس من المركب على غيرهم علشان يعملوا القضية"[99] . وقال زياد: "في الحبس سمعنا إن فيه واحد اسمه شريف، وسمعنا إنه واخد صور –فيه ناس من اللي اتاخدوا من بيوتهم كانوا طالعين في الصور". واستطرد قائلا:
"كانوا جابوا المصوراتية [من الاستوديو الذي كان يحمض صور شريف] … واحد منهم انهار وقعد يعيط ويقول كلام كتير في الحجز، إن شريف ورا الحكاية كلها، وإنه مش فاهم إيه اللي بيحصل، وإن الصور صور شريف، وقعد يقول: "يا ريتني عمري ما اشتغلت الشغلانة دي". وبدأنا كلنا نحس إننا وقعنا في مصيبة: أمن الدولة مش بسيطة".[100]
وقال وحيد: "كان فيه زحمة صحفيين رهيبة جوة المبنى، وكانوا بيصورونا. ما كناش فاهمين. ما كناش عارفين إنهم جم يدمروا حياتنا ويضيعوا الشوية اللي فاضلين منها".[101]
كان المحتجزون منهكون، يعانون من الجوع وقلة النوم، ولما كانوا يعتقدون أنهم سقطوا في حملات نيابة الآداب بتهمة الفجور، كانوا يتوقعون استجوابا حول سلوكهم الجنسي. ومن ثم أصابهم الذهول عندما اتضح إن الاستجواب يدفعه موضوع مختلف تمام الاختلاف.
يشبه محضر استجواب وحيد جميع المحاضر الأخرى، ويبدأ بالتالي:
س: من هو الغلام الكردي؟
ج: مش فاهم يعني إيه.
س: هل قرأت كتب عن الأكراد وتاريخهم؟
ج: لا، ما باعرفش اقرا علشان أنا أمي.[102]
ركزت أسئلة النيابة الأولى على المنظمة المجهولة المنسوبة لشريف فرحات –الذي كاد يكون مجهولا لكل المتهمين. لكن هذه الأسئلة ضللت بعض المحتجزين فجعلتهم يعترفون بالسلوك المثلي. وقال وحيد:
"وأنا في مكتب وكيل النيابة سألوني عن عضويتي في منظمة عملها واحد اسمه شريف … أنا بعد كدة كلمت بقية الناس اللي محبوسين معايا و ما كانش حد فاهم الأسئلة دي بتتكلم عن إيه. سألوني لو كنت صنعت أسلحة أو طيارات. قلت لهم لأ، دا أنا ما باعرفش أقرا ولا أكتب، وما عنديش فكرة عن أي حاجة من دي. وبعدين سألوني على الشذوذ الجنسي. أنا كنت في حالة رعب، وفكرت إن التهمة دي أخف من الطيارات و الحاجات الأمنية. قمت اعترفت باعتياد ممارسة الشذوذ الجنسي".[103]
وقال مراد:
"أنا من شدة خوفي قلت لهم في الآخر: "ما عنديش أي فكرة عن ازدراء الأديان، أنا بس عندي شذوذ. أنا حسيت إن ازدراء الأديان دي تهمة كبيرة قوي. ما كنتش عارف إن الشذوذ ممكن برضه يبقى تهمة صعبة كدة".[104]
أدين الكثير من المتهمين استنادا إلى هذه الاعترافات دون غيرها. لكن بعض وكلاء النيابة كانوا بالفعل يوبخون المتهمين على إنهم مثليين. يتذكر فيصل غاضبا:
"ما كانش فيه أي فرق بين طه الإمبابي ووكيل النيابة. الإتنين شتمونا وبهدلونا بأي طريقة ممكن تتخيلها. أنا فاكر بالذات –ودي حاجة ضايقتني جدا- إن وكيل النيابة سألني إذا كنت باعمل حلاوة في صدري ودراعاتي. وأنا رفضت إن حد يكلمني بالأسلوب ده، و كانت النتيجة شتايم تاني وبهدلة تاني".[105]
حاول بعض المتهمين أن يشكوا سوء معاملة الشرطة لهم حين مثلوا أمام النيابة. قال حسين:
"قلت له [لوكيل النيابة] على الضرب. مش عارف كتب كلامي ولا لأ. أنا كدة كدة أمي، فما كنتش حاعرف أقرا. خلاني أمضي على محضر. قلت له: "أنا أمي ومش حاعرف أقر اللي فيه". قال لي: "إمضي". أنا باعرف أكتب إسمي. قلة تعليمي دي سببت لي مشاكل كتير".[106]
وقال بشار:
"أنا قلت قدام وكيل النيابة إني اتضربت. وريته آثار الكرباج على ضهري وعلى صباعي. وكيل النيابة قال للكاتب: "إثبت عندك إن المتهم حضر قدامنا لابس فانلة" -و كَرّ كل الهدوم اللي كنت لابسها- "وإننا لم نجد إصابات".[107]
واجه رجال امن الدول شريف فرحات بالمتهمين، وطلبوا منه التعرف عليهم. قال مراد: "هو قال مايعرفش حد مننا غير بتاع الحديد –بتاع كمال الأجسام- و اتنين غيره. ودول فيهم الولد بشار اللي أرشد عنا" [108]. أما بشار نفسه فقال: "أنا في النيابة شفت شريف مربوط بالكلابش، وفي الكلابش التاني كان فيه واحد اسمه محمود دقلة. دقلة قال لشريف: "يا شريف إنت ضيعتني". وشريف قال: "يا محمود أنا زيي زيك".[109]
أخبر وكلاء النيابة كل متهم على حدة إنه متهم بازدراء الأديان. ولم يكتشف الناس أن النيابة أمرت بحبسهم 15 يوما على ذمة التحقيق إلا عند خروجهم لعربة الترحيلات. قال وحيد: "لما خرجنا لقينا وجود أمني رهيب حوالينا. عمري ما شفت حاجة زي كدة بكمية الشرطة والعساكر دي".[110] أما زياد فيقول عن تجربته في سيارة الترحيلات:
"ما كنتش أعرف إحنا رايحين فين. رايحين لنهايتنا. وقف وحيد "أنيميا" تاني وقال بنفس الصوت الأسود: "إحنا كدة رايحين سجن طرة". كان غريب وبيتكلم ببطء –كان بيمشي كأن الجبل بيتحرك. وكلنا قعدنا نعيط".[111]
"في طرة استقبلونا أوسخ استقبال "، على حد قول وهبة لهيومان رايس ووتش.[112] وقال زياد: "نيمونا في أوضة معفنة، أكتر من خمسين واحد، مافيش بطاطين، مافيش أي حاجة، الفران والحشرات طالعة تجري على الأرض".[113]
وفي الصباح، أخرج الحراس المساجين من الزنزانة، وأمروهم بخلع جميع ملابسهم إلا الملابس الداخلية.[114] "وفيه واحد قلعوه ملط خالص علشان كان شكله مش طبيعي".[115] ثم حلقوا رؤوس المساجين. ويتذكر أحدهم أن "الحلاق عمال يشتم، وقال إنكو أكيد كلكم عندكم الإيدز، وقال إنه ح يحرق عدته بعد ما يخلصنا لاحسن يعدي بقية المساجين".[116]
وقال محرم: "وبعدين ضربونا. هم سياستهم إنهم مايخلوش العساكر يضربونا علشان ما حدش يقاضيهم. المساجين التانيين هم اللي يضربوا. فيه كتير من المساجين اشتركوا في الضرب".[117]
وقَسَّم السجن المساجين إلى زنزانتين، إحداهما للمتزوجين، و الأخرى لغير المتزوجين.[118] وسببت عضلات بسام اضطرابا في التصنيف، إذ قال لنا:
"ظابط أمن الدولة بص لي، وشاف عضلاتي، قام حطني في أوضة لوحدي. قعدت فيها تلات أيام. كنت محبوس في الأوضة دي 24 ساعة في اليوم. ما كانش فيها حاجة غير البطانية اللي بانام عليها وإزازة المية. مافيش حمام. كانوا بيطلعوني من الأوضة 8 الصبح علشان أروح الحمام، في نفس ميعاد الناس التانية. ما كانش فيه حمام جوة. كنت أشرب المية بتعتي واسعد طول الليل علشان أروح الحمام الصبح. دول كانوا أول تلات أيام، أو أعتقد أربع أيام … أخيرا قلت له: "لازم تحطوني مع ناس غيري". فرجعني زنزانة المتجوزين وقضيت مدتي معاهم".[119]
ويتذكر فيصل أنه في سجن طرة:
"قعدوا قافلين علينا الباب شهر بحاله. كنا معزولين في الأوضة. ما كانوش بيفتحوا الباب غير علشان يدونا الأكل وياخدوا الزبالة. المية كانت مقطوعة تقريبا طول الوقت. ما كانتش بتيجي غير ما بين الساعة خمسة والساعة ستة ونص. كانت خناقات على مين يروح الحمام وعلى غسيل الهدوم. كل واحد ما كانش عنده غير بطانية واحدة ينام عليها على الأرض. كنا نحط جزمتنا تحت دماغنا على إنها مخدة.، ونلف البطانية حوالين نفسنا علشان نتدفى".[120]
ولم يسمح للسجناء بتلقي الزيارات طيلة الشهر الأول، كما لم يسمح لهم طيلة ذلك الشهر بتلقي الخطابات، ولا الطرود، ولا إجراء أي اتصال بأسرهم. وبعد عدة أسابيع، كانت أبواب الزنزانتين تفتحان لمدة ساعتين كل يوم –ساعة في بداية اليوم وساعة في نهايته. لكن لم يُسمَح للسجناء بالخروج إلى الهواء الطلق، بل سُمح لهم بالخروج إلى الممرات الداخلية فقط.[121]
وتواصلت الإساءة على أيدي الحراس والمساجين الآخرين. "مثلا لو مطلعينا االنيابة تلاقي الحراس بتقول بصوت عالي: "أهلا بالخولات! أهلا بعبدة الشيطان! أهلا بالشواذ!" … وأحيانا يضربونا بإيديهم أو بالعصيان.[122] ويقول حسن إنه عندما سمح لهم السجن تدريجيا بالاختلاط بسائر المسجونين: "كان فيه مساجين بقوا يلعبوا معانا كورة وكدة على الأواخر. لكن كان فيه كام واحد كل الناس بيعاملوهم وحش قوي، سواء ظباط أو مساجين. و كانوا الكام واحد دول اللي باين عليهم قوي … كان فيه مساجين كتير بيضربوهم".[123]
وعلمت أسر المتهمين عن مكانهم بالتدريج، وعلم بعضهم عن طريق الصحف. قال حسين:
"واحد صاحبنا قال لعمي اللي كان قلقان إني مختفي: "ده فيه شوية عيال في الجرايد واخدينهم عبدة شيطان. بص في الأسامي يمكن تلاقيه في وسطهم". عيلتي لقيتني كدة. شافوا إسمي في الجرنان. فعمي قال لأهلي، ورحلتهم بدأت".[124]
وبينما كان الرجال في حالة انتظار، كانت الصحف تستغل قضيتهم. شكا حسن: "من أول يوم وبتوع الجرايد بيكتبوا عننا أقذر كلام ممكن تتخيله، كل يوم. وبعدين كانوا بيقروا لنا الكلام ده في سجن طرة علشان نعرف إحنا قد إيه حثالة"[125]. وعلى مدى الشهور الستة التالية، غرقت الصحف في هستيريا الكتابة عن القضية. ففي يوم 15 مايو/آيار، نشرت جريدة "المساء" (التي تملكها الحكومة) أسماء الخمسة و خمسين رجلا المقبوض عليهم بالكامل، وزعمت إن جميعهم اعترفوا أمام النيابة بعبادة الشيطان.[126] وفي نفس اليوم، نشرت جريدة الجمهورية الحكومية الأسماء الكاملة لثلاثين من المتهمين، بالإضافة إلى سنهم و مهنتهم و مكان عملهم، وذلك تحت عنوان "مفاجآت "عبدة الشيطان" الشواذ: أطلقوا على أنفسهم "وكالة جنود الرب" ويمارسون الجنس الجماعي... سرا وعلانية ...يجتمعون مساء كل خميس في الباخرة "كوين بوت"[127]
وفي 25 مايو، نشرت مجلة "روزاليوسف" الأسبوعية مقتطفات من "مانيفستو منظمة الشواذ" و حذرت من أن المنحرفين "لا يؤمنون بقومية غير قومية الشذوذ و لا يعترف بالحدود و الفواصل بين شعوب الأرض والعداوات بينها ويتطلعون الى مستقبل قريب يصبح فيه الجميع شواذ و مواطنين في القومية فيعم الأرض السلام والمحبة"[128]
اتهمت الصحف تأثير الغرب وشجبته. كتبت جريدة "الأخبار الحكومية عن "عولمة الشذوذ".[129] أما جريدة الأحرار الأسبوعية فتلقي اللوم على وزارة الداخلية إذ تكتب: " الوزارة الثالثة المسئولة هي وزارة الداخلية التي ألقت الرعب في قلوب الشباب أن يدخلوا مسجداً أو أن يكونوا من المصليين ... وأصبح شعار الأباء والأمهات في البيوت المصرية لأولادهم يا بنى لا تقترب من المسجد حتى لا يقبض عليك"[130]
أما صحيفة "صوت الأمة" المستقلة فزعمت أنها تتحدث على لسان "أبناء الوطن" إذ تقول: نريد صوتا يعبر عن غضبنا من أبناء الأثرياء الذين دائما يأتون بجرائم جديدة".[131]
نشرت العديد من المقالات مصحوبة بصور للمتهمين، و عادة ما كانت تخفي عيونهم بشريط أسود، لكن ليس في كل الحالات.[132] أما مجلة المصور، التي تتحكم فيها الدولة، فنشرت تحقيقا عن "قوم لوط" على طول ثلاث صفحات في يوم 18 مايو/آيار، مصحوبا بصورة من الواضح أنها معالجة لكي تُظهر شريفا وهو يرتدي خوذة الجيش الإسرائيلي، ويجلس على مكتب يعلوه علم إسرائيل.
كان ماهر صبري شابا يقطن سكنا مشتركا مع احد المتهمين، وبدأ في إرسال أنباء الاعتقالات عبر البريد الإلكتروني إلى منظمات حقوق الإنسان حول العالم. وعندما بدأت تلك المنظمات في الاستجابة، وصل هجوم الصحف في مصر إلى ذروته. وفتحت مجلة "روزاليوسف" النار في يوليو/تموز:
فاجأت منظمة العفو الدولية الجميع بتصريحها دفاعا عن مجموعة من الشواذ اتهموا مؤخرا في مصر بتكوين تنظيم "قوم لوط". …ما هذا الهراء؟ لماذا لا يفهمون الاختلاف الواضح في العادات والتقاليد بيننا وبينهم؟ …يبدو ان منظمة العفو الدولية، بمناسبة عيد ميلادها الأربعين، أرادت أن تقدم مهزلة شديدة الفكاهة، دون أن تتأكد من ان هذه القصة ستضحك الجميع.[133]
وعندما شجب بعض المشرعين الأمريكيين القضية، نشرت صحيفة "الأهرام العربي" شبه الرسمية مجموعة من المقالات تحت عنوان "كن شاذا لترضي العم سام".[134]
زادت الضجة الإعلامية من معاناة الأهالي. لم يقم زياد بأية محاولات للاتصال بأمه من داخل السجن لأنه –كما يقول :"كنت مكسوف أعرَّفهم اللي حصل". وقالت أمه –التي تقطن مدينة إقليمية- لهيومان رايتس ووتش: "إحنا عرفنا من واحد جارنا شاف الحكاية في الجرنان. الكلام ده كان بعد ما اتقبض عليه بكذا أسبوع. كنا خلاص مش قادرين. رحنا مصر مرتين. كنا بنسأل الناس في المحاكم السجن فين؟ ماقالوش غير إن القضية في المحكمةالعليا".[135] وقال زياد:
"اهلي ما كانوش عارفين أنا فين لمدة خمس شهور أو يمكن أكتر. ما كانش أصلا عندي محامي لغاية ما جالي محامي من طرقة [مصطلح مصري يشير إلى المحامين الذين يترددون على المحاكم بحثا عن موكلين جدد] عرض عليا ياخد قضيتي. كنت أنا أصلا اللي باكلم القاضي في الجلسات. الكلام ده ما كانش غير يمكن تاني جلسة قبل الحكم. أنا كنت باعيط قدام المحامي بتاعي وباقول: "خايف أمي تعرف". المحامي لقى أمي، وحكى لي إزاي إن هي بتدور عليا بقى لها شهور. ما كانتش حتى تعرف إن أنا في طرة".[136]
حكت أم زياد إنها عندما زارت سجن طرة "العساكر كانوا متوحشين. كان تفتيشهم في منتهى قلة الأدب. دَبُّوا إيديهم جوة هدومي ومسكوا صدري. وشتمونا وقالوا لنا: "إزاي يبقى عندكم ابن زي ده"؟[137]
وفي قسم الأزبكية، التقى زياد باثنين من المثليين يكبرونه سنا، على علاقة ببعضهما ومقبوض عليهما في نفس القضية: "كانوا هما اللي طول الوقت خللوا بالهم مني". ويضيف:
ما خلونيش عايز أي حاجة، علشان هم كانوا أهاليهم بيبعتوا لهم حاجات. ما كانوش بيرفضوا لي أي حاجة كنت محتاجها. و كانوا محترمين الأسباب اللي مخلياني مش عايز أكلم أهلي … كنا بنواسي بعض. ما كانش بيمر يوم ما بانامش فيه معيط. كلهم كانوا حاسين إن أنا أصغر واحد في القضية، رغم إن كان فيها ناس أصغر مني. بس أنا كنت لوحدي خالص. كان صعب أستحمل.[138]
استمر عرض المتهمين على وكلاء نيابة أمن الدولة بشكل دوري، وكانت مدة حبسهم تجدد أيضا بشكل دوري. وفي أواخر شهر يونيو/حزيران، حوَّلت النيابة المتهمين إلى إدارة الطب الشرعي لفحص فتحة الشرج. وصدرت تقارير بإن ستة عشرة رجلا منهم "مستعمل".
قال محامي دفاع في القضية: "تهمة الفجور لم تظهر إلا في حبسهم للمرة الثالثة. وحتى ذلك الحين، كانت جميع التهم هي ازدراء الأديان، وابتداع تنظيم جديد لعبدة الشيطان". وأضاف قائلا: "باستمرار التحقيقات اتضح إنه لا توجد أي دلائل على [ازدراء الأديان]". ولكن الدولة –بعد أن كشفت عن منظمة زائفة- لم يعد بإمكانها أن تفرج عن المسجونين. "كان لازم يبقى فيه تهمة ضدهم كلهم".[139]
وجهت تهمة اعتياد ممارسة الفجور إلى الجميع. ووجهت تهمة إضافية إلى شريف فرحات ومحمود دقلة، وهي تهمة ازدراء الأديان، طبقا للمادة 9 (و) من القانون الجنائي.
افتتحت جلسة محاكمة المتهمين يوم 18 يوليو/تموز أمام محكمة جنح أمن الدولة طوارئ –وهي محكمة لا تخضع أحكامها للاستئناف إلا عن طريق تقديم التماس لرئيس الجمهورية.[140]
تدفق كم هائل من الصحفيين على المحكمة الصغيرة بعابدين. حاول المتهمون إخفاء وجوههم وراء الجرائد و الأكياس البلاستيك. ووفقا لوصف أحد الصحفيين للمشهد: "صرخ عدد من أقارب المتهمين ولطموا خدودهم، ثم انهالوا على المصورين بالضرب، بينما أصيب أحد المتهمين بنوبة وصفها الحراس بأنها نوبة صرع، واضطروا إلى حمله خارج الغرفة[141]. وانفضت الجلسة في جو تعمّه الفوضي.
بعد ذلك انقلت المحاكمة لمحكمة أكبر، تصلح لاستيعاب الزحام. يقول احد محاميي الدفاع إن: "السلطات كانت عايزة توَصَّل رسالة، هي إن المحاكمة دي فيها مصالح الدولة، وإنها مسألة تهم الجماهير جدا. هم حَضَّروا الساحة ووسائل الإعلام جت".[142] وكان الهرج والمرج الناتجين عن وجود الصحفيين والمتفرجين يعطل جميع الجلسات: مَنَع المسئولون الأهالي والأسر من دخول الجلسات الصاخبة، بينما أشَّروا للمصورين بالدخول. تتذكر أم زياد أن الحراس كانوا يستهزئون بالنساء الباكيات قائلين: "إنتوا بقى اللي مخلفين الخولات!" بينما كان الصحفيون يسألونهن: "إيه إحساسك و إنتي ابنك خول؟".[143]
قال حسين: "كل جلسة كنا بنروحها في المحكمة كانت بتبقى حاجة صعبه قوي. ضرب وشتيمة وجرايد بتصور. وكنا عارفين إن أهالينا كمان بتتعب قوي".[144]
قال فيصل: "الأهالي طلبوا مننا نخبي وشوشنا علشان الجيران وقرايبنا من بعيد ما يعرفوناش، أول ما عرفوا إن حيكون فيه صحافة كتير كدة في القضية".[145] وبدا المتهمون في ارتداء أقنعة انتزعوها من ملابس السجن البيضاء. وعندما نشرت الصحف العالمية هذه الأقنعة، غدت رمزا في كل العالم لجو الفضيحة والعار الذي يحيط بالقضية. وحسب أقوال أحد المتهمين: "بعد الجلسة الأولى، كانوا في السجن بياخدوا منا كل حاجة إلا هدومنا علشان ما نغطيش وشوشنا في المحاكمة. كانوا عايزين وشوشنا تبقى متشافة. كانوا يدخلوا الزنزانة وياخدوا مناديلنا، وحتى المناديل الورق كنا بنخبيها علشان العساكر ما يلاقوهاش".[146]
وصدر الحكم يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني. وانضم الصحفيون إلى حشود المتفرجين وراء حاجز شرطة عميق. طرق أقارب المتهمين و محاميهم الباب-وكلاهما ممنوعون من دخول القاعة- بشدة، بينما صور المصورون ومصورو الفيديو المتهمين المقنعين داخل قفص الاتهام. قال رشيد:
"القاضي كان بيهمس، والضباط بتزعق. كانت حاجة مهينة، أنا ماعرفتش حتى حكمي إيه لغاية ما رجعنا سجن طرة. كلنا كنا بنبكي زي الأطفال، والعربية ماشية في الطريق. أصلا اللي قرا لنا أحكامنا كان مأمور السجن. كنت أنا واخد براءة".[147]
قال زياد: "انا ما سمعتش الحكم من القاضى …. انا سمعت اسمى وقعدت اصرخ فيه يعلي صوته، بس ما سمعتش الحكم. كنت دايخ ومنهار. لما رجعنا السجن وقالوا لي اكيد انا اغمي عليا. أخدت حكم سنتين".[148]
برأت المحكمه 29 متهما و ادانت 23 منهم ، ادين شريف فرحات بتهمتي "الفجور" و"ازدراء الاديان السماويه" وحكم عليه بالسجن خمس سنوات ؛ أما محمود دقلة فأدين بالتهمة الثانية فقط وحكم عليه بثلاث سنوات. أما سائر المدانين فحكمت عليهم المحكمة بالحبس لمدة عامين بالإضافة للمراقبة (أي المبيت بقسم الشرطة كل يوم) لمدة مماثلة لمدة الحبس لإعتياد ممارسة الفجور (بإستثناء بسام بطل كمال الأجسام الذي حكم عليه بسنة واحدة) قال وحيد، وهو ممن أدينو: "في نوفمبر حكموا عليا بالموت بالحيا. بس أنا كنت مت خلاص بقالي شهور".[149]
وفي مقابلة أجريت مع القاضي محمد عبد الكريم وهو القاضي في تلك القضية، قال:
في نطاق النظام القانوني الجنائي، الحكم بالإدانة لازم يكون مبني على اليقين، بدون أي مجال للشكوك ولا الشبهات. فالناس اللي أنا إديتهم أحكام أنا كنت متأكد تماما انهم مذنبين والأدلة اللي اعتمدت عليها كانت تضم: أولا اعترافاتهم ؛ ثانيا، صور فوتوغرافية ظهر فيها العديد من المتهمين ؛ وثالثا دليل مهم: نتيجة كشف الطب الشرعي وده وجد ان العديد من الأشخاص مستعملين استعمال متكرر. كان مجموع الأدلة دي هو اللي خلى المحكمة تصدر أحكام الإدانة وهي في تمام اليقين بأن الناس دي مذنبة. والأشخاص اللي لم تشير لهم الثلاث أدلة دول أخدوا براءة والدليل على ده واضح بإن عدد اللي إتبرأوا أكترمن عدد اللي أدينوا.[150]
أما تحليل هيومان رايتس ووتش لملفات القضية فيوحي _على النقيض من ذلك– بأن الأدلة على الإدانة نادراّّّّ ما وصلت إلى مثل ذلك "اليقين". أما مجموع الأدلة الذي تحدث عنه سيادة القاضي فكان شبه منعدم.
ثلاثة عشر شخصا ممن أدينوا لم يعترفوا في النيابة، وأدينوا بناء على كشف الطب الشرعي دون غيره من الأدلة. ( وصدر الحكم على واحد منهم – بسام – رغم إنكاره، ورغم نتيجة الطب الشرعي التي وجدته "غير مستعمل" – بل أدين بناء على ما زعمه شريف فرحات بإنه قد مارس معه الجنس مرة واحدة، مما لا يكفي لإثبات عنصر " الاعتياد " أي التكرار الذي يتطلبه النص القانوني.)
ومع ذلك، كانت الأدلة القائمة على نتيجة كشف الطب الشرعي ضعيفة من حيث الشكل إلى درجة كانت توجب استبعادها في غياب أدلة إدانة أقوى لمساندتها. فكان أسلوب تقارير الطب الشرعي المعتاد يقر بأن المتهم "مستعمل من الخلف لمدة طويلة يصعب تحديدها تقنيا بدقة"، أو إنه "استخدم في اللواط مع الاختراق لمدة طويلة يصعب تحديدها، من شأنها أن تيسر استعماله منذ وقت قريب دون أن يترك ذلك علامات تدل عليه". ويعني ذلك إننا حتى إذا حكمنا على تلك التقارير من الظاهر ( مع العلم إننا سنشير في الفصل السادس من هذا التقرير أن هذه الفحوص ليست لها أية قيمة طبية) فنرى إنها لم تجزم بأن هذه الأفعال ارتكبت في بحر الثلاث سنوات. كما ان بعض الاعترافات التي استخدمت في الإدانة كانت عن مدة أقدم من الحد الأقصى للتقادم وهو ثلاث سنوات. اعترف اثنان ممن اعترفوا وهما بشار ويوسف بالأفعال التي مارسوها منذ خمس سنوات مضت فقط ؛ قال أحدهم إنه مارس أفعالا مثلية قبلها بسبع سنوات، وقال أن ذلك جرى لمدة عام واحد فقط؛ كما جاء تقرير الطب الشرعي بأن الثلاثة غير مستعملين. ومع ذلك أدانتهم المحكمة بناء على هذه الاعترافات دون غيرها من أدلة.
وعندما ألححنا في سؤال القاضي محمد عبد الكريم حول فترة التقادم التي تبلغ ثلاث سنوات وعن أساليبه في التأكد من أن الممارسة إعتيادية، قال لهيومان ريتس ووتش:
كما قلت، الدليل يجب أن يكون مبني على اليقين. لكن في نظام القانون الجنائي، الأدلة بتكمل بعضها البعض. فقد لا يكفي كشف الطب الشرعي وحده لإثبات أن الشخص مذنب. لكنه إذا أضيف إلى تحريات الشرطة وإلى إعترافات المتهمين اللذين يورطون بعضهم البعض، كل هذه العناصر تضاف إلى بعضها البعض علشان المحكمة تتأكد من إذا كان المتهم ده مذنب ولا برئ.
وأخيرا قال: " تحديد الأعتياد وإذا ما كان حدث من ثلاث سنوات ده يرجع أولا وأخيرا للمحكمة وده من سلطاتها وإختصاصاتها ومن هذه الناحية لا تراجعها حتى محكمة النقض".[151]
أفرج عمّن صدرت أحكام براءتهم ليواجهوا عائلاتهم المدمرة.[152] أما المدانون فأستمر حبسهم في سجن طره. وانهارت بعض الروابط العائلية من الفضيحة. قطعت زوجة وهبة صلتها به عند إدانته:
طول الست شهور اللي قبل المحاكمة كانت مراتي بتيجي تزورني. كانت تجيب معاها بنتي الصغيرة – كان عمرها ستة شهور لما دخلت الحبس. بعد الحكم ما صدر كانت عيلتها رجعوها البلد علشان ما تجيش تزورني. … أنا استنيت مراتي في السجن اسبوع، اسبوعين، تلاتة _ مجاتش. مافقدتش الأمل فيها، علشان هي كانت قالتلي انها مش هاتتخلى عني. لكن ماجتشي تاني.[153]
ولكن الضغوط العالمية كانت تتزايد، وخاصة مع الاعتقالات الجديدة التي كانت تذكّر الجميع بالناس الموجودين خلف القضبان. وبعد الهجوم على المركب بعام، أبدت الدولة بعض اللين في مايو/أيار 2002، حيث ألغى مكتب أمن الدولة للتصديق على الأحكام- وهو مكتب تابع لرئاسة الجمهورية مختص بمراجعة محاكمات أمن الدولة طوارئ –50 حكما من الـ 52، بناء على ان تهمة "إعتياد ممارسة الفجور" ليست من اختصاصات محكمة أمن الدولة. وظل المتهمان الأول والثاني رهن الحبس لأنهما أدينا بتهمة "ازدراء الأديان السماوية"، بينما أفرج عن سائر المحكوم عليهم، وعددهم 21 شخصا. ولكن النيابة كان من حقها السعي وراء إعادة محاكمة الخمسين متهما جميعا.[154]
واستمر سوء المعاملة حتى بالنسبة للذين صدرت أحكام بالإفراج عنهم. فبدأت الترحيلات بين أقسام الشرطة المختلفة – وبالنسبة لساكني المدن خارج القاهرة، بين المدن المختلفة – للكشف عن أية أحكام سابقة، والنتيجة ان بعضهم لم يفرج عنه إلا بعد أسابيع. قال حسين:
رحلوني على لاظوغلي (المكتب الرئيسي لمباحث أمن الدولة) في عربية الترحيلات. وهناك انضربنا واتبهدلنا تاني، واتضربنا بالأقلام والشلاليت، وطبعا "يا خولات ". "الشراميط اهم، اهم اللي بيا خدوه في طيزهم "و"تعالي يا اموره"وكله بيكلمونا علي اننا بنات كل الظباط كانوا بيتتريأوا (يسخروا) علينا. قالوا لنا: انتوا ح تخرجوا. بس لو شفنا واحد منكم هنا تاني – حيموت". وخرجنا ورجعنا لاهالينا.[155]
قررت النيابه اعادة محاكمة ال 21 رجلا الذين كانوا قد آدينوا. وبدآت رحلة عذاب جديده يوم 2 يوليو/تموز 2002،امام محكمة جنح عاديه.[156]
واستدعى القاضى حسن السايس رجال الشرطة الذين آجروا القبض على المتهمين وطلب استجوابهم، وطلب الاطلاع علي سجلات محاضر الاعتقال من اقسام شرطة وسط المدينه للايام الخمسة قبل الهجوم علي المركب. وكان الدفاع يأمل في اثبات عدم صدور اذن بالقبض علي الناس، وان تهمة تكوين منظمة ينفيها الاسلوب العشوائى لاعتقال المتهمين.[157]
ولم يظهر الضباط ولا السجلات في جلسة تلو الاخرى.[158] و اصدر القاضي حكمه يوم 15مايو/ايار 2003 دون ان يسمع مرافعات الدفاع. زعم القاضي ان القضية تحمل اصداء "احداث ايام قوم لوط و العقاب الالهي الذى أنزل بهم"، وايد الأحكام التي سبق أن أدين بها جميع الرجال الواحد والعشرين من قبل، كما اطال مدة حبسهم فاصبحت ثلاث سنوات – المدة القصوي –بعد ان كانت تتراوح بين عام وعامين.[159] لم يحدد القاضي كفالة الي حين الاستئناف، ويعني ذلك ان المدانين معرضون للقبض عليهم في أية لحظة بمجرد صدور امر النيابة باعتقالهم. لم يصدر مثل هذا الامر، ومع ذلك اصيب جميع الرجال بالرعب و اختبأ الكثيرون منهم.
عقدت جلسة استئناف يوم 4 يونيو/حزيران. لم يجرؤ سوى أربع رجال على المثول أمام المحكمة في قفص الاتهام لسماع الحكم. أيد القاضي إدانتهم لكنه خفض الأحكام لتصبح سنة واحدة كانوا قضوها بالفعل في الحبس. وظل هناك احتمال بان يلتمس سائر المتهمين استئناف أحكامهم.
كان شريف فرحات ومحمود دقلة لا زالا في سجن طره. غادر بعض المتهمين الآخرين البلاد، وكذلك هاجر ماهر صبري، الذي تشجع وأرسل أول رسائل بريد إلكتروني ليبلغ منظمات حقوق الإنسان بالقضية.[160] أما حياة الناس الموجودين في مصر فمتعثرة. قال سعد الذي صدر الحكم ببراءته في أول جلسة ان فترة الحبس لمدة ستة أشهر كانت "حتة فاضية ضايعة من عمري. مفيش عدل في البلاد دي".[161] أما الذين أدينوا فكان وضعهم أكثر صعوبة. كان وحيد يعمل سائقا، وبكى وهو يقول ببساطة: "بعد ما طلعت اكتشفت ان مستقبلي ضاع. بعد ما خرجت عرفت ان السواقة دي تعتمد على سمعتك. حتى عمامي اللي عندهم عربيات مش بيخلوني أطلع بيها. وأضاف:
عندي خمسة وعشرين سنة ولسه عايش مع أهلي. وهم عينهم مكسورة في الحتة وفي وسط كل معارفهم، علشان كل الناس قرأت في الجرايد اللي قالوه عليا. أنا ما بأعرفش أقرا بس عارف ان أسمي بقى حاجة قذرة. كون إني اتحكم عليا معناه ان بلدي عمرها ماهاتقبلني حتى بعد ما أطلع. معناها ان حياتي انتهت. كتير جوه حاولوا ينتحروا في الزنزانة ماكانوش قادرين يواجهوا حياتهم اللي جايه، ماكانوش قادرين يمشوا في الطريق ده. فيه مساجين غيرهم منعتهم. أنا ماحاولتش أموت نفسي بس عارف اني ممكن أعملها. الحكم لسه فوق راسي، حياتي انتهت. أنا با أفكر طول الوقت في الإنتحار.[162]
أما وهبة، فقد بحث بعد الافراج عنه عن زوجته التي هجرته عندما صدر الحكم ضده، فأكتشف انها أخذت ابنتهم الرضيعة ورفعت عليه دعوى طلاق. يقول وهبة: " ماكانشي عندي فلوس أديهالها. أي حتة أحاول أشتغل فيها كانت تطلب الفيش (صحيفة الحالة الجنائية) بإني ما صدرشي ضدي أحكام. ولما أروح أجيب الفيش كان يبقى مكتوب فيه إني إتحكم عليا في قضية فجور. عندي 8 أخوات، ولاد وبنات، كلهم اتقلبوا ضدي. حتى صاحب العمارة عايز يطردني".
وقال:
حياتي وقفت. الحياة اللي أنا عايشها دي عاملة زي الجحيم مش قادر أعيشها. وعمال أفكر في بنتي كمان. لما تكبر هايقولولها ايه عن أبوها هاتفتكرني ازاي ؟ هاتفتكر الراجل اللي كان بيحبها ولا الراجل اللي وقف في القفص؟[163]
وأخبرنا شقيق يوسف أن: " الكلام كتر قوي في الحتة الناس كانت عماله تتفرج عليه واللي يهدده واللي يحاول يضربه. كان صعب قوى على بقية العيلة برضه". واضطرت اسرة يوسف الى الانتقال لمنطقة جديدة.[164]
وما زال بعض الضحايا يتذكرون من اضطهدوهم، فمثلا، قال سعد:"انا باتجنن لما بفكر فى طه الامبابى. نفسي احسسه بالجرح اللي انا اتجرحته، اللى اهلي انجرحوه، ازاى جرح عائلات كتير ومئات الناس باللى هو عمله".[165]
أما زياد الذي يبلغ من العمر اربعة وعشرين عاما، فألقى نظره شامله علي رحلة العذاب التي استمرت عامين، وقال وهو يرتجف – لكنه لم يكن منكسرا:
كنت فاكر زمان إن كوني “جاي” ده جزء من حياتي. بس دلوقتي عرفت إنه أوض ضلمة، وضرب. صعب قوي قوي إنك تبقى “جاي” في مصر.
أنا مش بانام. لو نمت ح احلم بالقضية. لو قالوا لي روح السجن تاني ح أمَوِّت نفسي. هما عايزين مِنَّا إيه؟! … هم عايزين مِنَّا إيه؟! ليه عايزين ياخدوا حياتنا؟![166]
|