أرشيف العدالة من أجل سوريا
الأرشيف الصوتي
هذا الأرشيف هو مجموعة من المقابلات مع ناجين سوريين، وصحفيين، ونشطاء، ومحامين، وآخرين يخوضون النضال من أجل العدالة في سوريا. يركز الأرشيف تحديدا على المحاكمة الألمانية الأخيرة بموجب الولاية القضائية العالمية التي جرت في مدينة كوبلنز. في يناير/كانون الثاني 2022، أدانت محكمة كوبلنز مسؤول المخابرات السورية السابق أنور ر. بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وحكمت عليه بالسجن المؤبد. كانت هذه المحاكمة، الأولى في أي مكان في العالم ضد التعذيب الذي ترعاه الدولة في سوريا، حدثا فاصلا لضحايا التعذيب والعدالة الدولية.
أمينة صوّان
أمينة صوان مسؤولة حملات وناشطة سورية تعيش في برلين. تعمل حاليا لدى منظمة حقوق الإنسان والمناصرة "حملة من أجل سوريا"، حيث تقود عمل المنظمة في مجال العدالة والمساءلة في سوريا. تحدثت أمينة إلى "هيومن رايتس ووتش" عن تجربتها خلال الانتفاضة السورية، وآمالها في مستقبل سوريا، وآرائها حول محاكمة كوبلنز.
تابعوا أمينة هنا: https://twitter.com/AmeenahSawwanبلقيس جرّاح (00:00:00):
قدّمي نفسك، أخبرينا من أنتِ وماذا تفعلين.
أمينة صوان (00:00:05):
أنا أمينة صوان، مسؤولة حملات وناشطة. أنا بالأصل من ضواحي غرب دمشق في سوريا. غادرتُ سوريا تقريبا في أوائل 2014، وقمت برحلة طويلة جدا قبل أن أستقرّ أخيرا في برلين في أبريل/نيسان 2016. حاليا أنا مسؤولة حملات العدالة والمساءلة في "حملة من أجل سوريا". أعمل في حملة من أجل سوريا منذ 2018. وحاليا شارفت على إنهاء شهادة البكالوريوس في الأخلاقيات والسياسة هنا في "كلية بارد" ببرلين. حملة من أجل سوريا هي منظمة حقوقية تدعم السوريين ونضالهم من أجل الحرية والديمقراطية منذ 2014. وفي حملة من أجل سوريا، ننشئ حملات ومبادرات إبداعية لدعم المجتمع المدني السوري في سوريا والشتات. انطلقت حملة من أجل سوريا في مارس/آذار 2014 في الذكرى الثالثة للانتفاضة السورية، في الوقت الذي لم تكن تتصدر فيه سوريا عناوين الصحف ولا أجندات الدول حول العالم، وأرادت حملة من أجل سوريا أن تفعل ما يمكن فعله لإعادة تركيز الاهتمام والعمل العالميَّين على سوريا. أعلم أن الكثير من الأشياء تغيّرت منذ ذلك الحين مع ظهور داعش، ووصول ما يسمى بأزمة اللاجئين إلى الشواطئ الأوروبية، ومشاركة المزيد من الدول في قصف سوريا.
بلقيس جرّاح:
أمينة، ما الذي يدفعك للقيام بهذا العمل؟
أمينة صوان (00:01:50):
هذا سؤال كبير. عندما بدأت الثورة السورية في 2011 كنت في أوائل العشرينيات من عمري. غيّرت الثورة حياتي كلها. كانت لحظة غيّرتني، غيّرت حياتي، غيّرت حياة ملايين السوريين إلى الأبد. واحتجنا إلى هذه الثورة لأننا كنا بأمس الحاجة إلى التمرد على الكاذبين والسنوات المتراكمة من الظلم والتعسف والفساد. حدث ذلك في كل مكان في سوريا. الإيمان بأننا قد نحصل على السلام يوما ما، هذا ما يُبقي آمالي عالية. يقولون أحيانا إن الأسد قد ربح الحرب أو انتصر كما يُقال في سوريا، وآمل أن ننتصر يوما ما بالسلام ونستعيد سوريا ونحقق العدالة التي نبحث عنها.
بلقيس جرّاح (00:02:55):
عندما تقولين إنك تتمنين أن تستعيدي سوريا ذات يوم ماذا تقصدين؟
أمينة صوان (00:02:55):
كنت من الأشخاص الذين تشرّفوا بالمشاركة في المظاهرات في 2011، فقد تمكنت من رفع صوتي عاليا ضد الاضطهاد، وفي أسوأ كوابيسنا، لم نكن نتخيل أن يحدث لنا كل هذا. كانت لدينا الكثير من الشكوك في السنوات العشر الماضية. اليوم أقول لنفسي إذا كان هناك شيء واحد مؤكد فهو أن الثورة التي غيرتنا كأفراد لا تنتهي أبدا، إذا استطعنا أن نكمل ثورتنا يوما، فسيكون أعظم إنجاز لها هو تغييرنا للأفضل. واستعادة سوريا بالنسبة لي تعني أننا سنحمل يوما ما كل الأشياء التي تعلمناها، ونحمل كل المعرفة والأشياء التي تمكنّا من تحقيقها في الشتات والعودة إلى سوريا، سوريا التي نريد، سوريا حرة وديمقراطية.
بلقيس جرّاح (00:04:05):
كيف كانت تجربتك في قاعة المحكمة؟ هل كان بإمكانك فهم ما يجري في الجلسات جيدا؟
أمينة صوان (00:04:15):
على الرغم من اعتقادي أن المحاكمة كانت خطوة مهمة، كونها تشكّل اعترافا بانتهاكات النظام السوري، لكن هناك الكثير من الأشياء التي كان من الممكن فعلها بشكل أفضل. فهناك عائق ضخم عندما يتعلق الأمر باللغة. وعدم توضيح سبب عدم توفير الترجمة الفورية إلى اللغة العربية. هذه محاكمة لسوريين بخصوص سوريا والتعذيب الذي تمارسه الدولة في سوريا حيث اللغة هي العربية. ولكن، للأسف، لم تتم ترجمة الجلسات. وكان ذلك محبطا جدا بالنسبة لي. تم توفير الترجمة فقط في الجلسة الأخيرة وهي جلسة النطق بالحكم، وقد أحدث الأمر فارقا كبيرا بالنسبة لي. كنت قادرة على فهم كل شيء. فأنا أتحدث الألمانية إلى مستوى معين، لكن في الجلسات العادية كان من الصعب جدا فهم أي شيء. أعتقد أن من الصعب على الألمان فهم ما يقال لأن اللغة المستخدمة قانونية ورسمية. أشعر بخيبة أمل حقا بسبب عدم إتاحة أرشيف جلسات المحكمة.
(00:05:50) عندما تنظرين إلى المحاكمات أو هيئات التحكيم الدولية، ستجدين أن لديها قنواتها على "يوتيوب" ويتم تسجيل الجلسات بأكملها. أفهم أنه بالنسبة للعديد من الشهود لا يمكن تسجيل الجلسات، لكنني لا أفهم حقا كيف تسير الأمور في ألمانيا. وسأكون ممتنة لو كان لديهم وضوح أكثر، مثلا، ليس من الواضح تماما سبب عدم توفير الترجمة الفورية، هل ذلك بموجب القانون، أو ليس لديهم الموارد. لكن بصراحة، الأمر مخيب جدا للآمال. لا أشعر أن الإجراءات شاملة للجميع فيما يتعلق بهذه المسألة. وأتمنى على الأقل لو نُشرَت التقارير المكتوبة لأرشيف الجلسات من قبل المحكمة، بدلا من أن يتوقعوا أن يقوم الآخرون أو المنظمات الأخرى بذلك، فهم قد يكتبون تقارير أقصر عن ذلك. أعتقد حقا أن تلك مسؤولية المحكمة.
بلقيس جرّاح (00:07:00)
إذن كيف تأكدتِ من فهم ما كان يحدث في تلك الجلسات، حيث لم تكن هناك ترجمة أو ترجمة فورية؟ كيف عرفتِ ما كان يحدث؟
أمينة صوان (00:07:17):
كان من الصعب معرفة ما كان يحدث عندما حضرتُ جزءا من الجلسات عندما كنت هناك. لكنني تابعت المحاكمة منذ بدئها في أبريل/نيسان. فقد كنت أتابع وسائل التواصل الاجتماعي، وتقارير أخرى من قبل المنظمات ووسائل الإعلام وأحيانا التغطية الإعلامية والنشطاء الذين كانوا يحضرون جلسات المحاكمة يكتبون تعليقاتهم وما حدث. هذا بشكل عام ما كنت قادرة على متابعته، وقد كانت في الغالب جهودا سورية لتغطية ما حدث. لذلك هذا جيد، ومن الرائع سماع ذلك، ولكنه محبط من ناحية أخرى، وأتمنى أن تُبذَل المزيد من الجهود في هذا المجال.
بلقيس جرّاح (00:08:13)
هل يمكنك رسم مشهد لنا للوضع داخل قاعة المحكمة؟
أمينة صوان (00:08:20):
تغيرت قاعة المحكمة يومَ صدور الحكم لأن المحاكم الألمانية أرادت أن تكون هناك مساحة أكبر ليحضر الناس. ركّبوا نوعا من الجدران الشفافة الرقيقة البلاستيكية من أجل الأمان، ما جعلني أشعر بالغرابة. شعرت أنني بحاجة إلى رؤية الناس، كنت بحاجة إلى تفاعل بشري، وكانت تلك لحظة حزينة حقا. كنت أنظر حولي ورأيت أشخاصا أعرفهم. جئت في ذلك اليوم وقفت في طوابير منذ الصباح الباكر مع الآخرين، وكنا نناقش العدالة والمساءلة وما هي تطلعاتنا لهذه القضية.
(00:09:22) كان هناك الكثير من الاهتمام الإعلامي. جاءت القاضية، كانت لحظة هادئة للغاية. وقفنا. وبعد ذلك قرأتْ الحكم. قرأتْه بإيجاز وقرأت الحكم، وكان المترجم يقرأ بعدها بالعربية. ولم أتخيل أن هذا سيحدث بسرعة. لقد بدأت بالنطق بالحكم ثم جلسنا وكانت تقرأ. كانت القاضية تقرأ كل الأسباب التي أدت إلى هذا الحكم. لمدة ثلاث ساعات، لم تتوقف. كانت ثلاث ساعات مكثفة تحدثت خلالها عن بداية عنف النظام، ردا على المظاهرات في دوما ومدن وبلدات سورية أخرى. كان الكلام قويا حقا وكنت أنظر حولي وأرى أن مشاعر الجميع فياضة. لقد كانت حقا لحظة صعبة. تحدثت القاضية عن كل ما حدث في 2011 و2012 ووضعته أمامنا. هذه الحقائق نعرفها، لكنها صعبة للغاية عندما نسمعها بصوت عالٍ.
(00:10:58) كان من الصعب حقا سماع هذا الحكم وهناك أكثر من 100 ألف سوري ما زالوا محتجزين أو مختفين، وأن الجرائم التي وثقتها القاضية وذكرتها بالتفصيل في هذه المحاكمة ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا. لذلك، كان هناك تضارب بالمشاعر. وكنت أفكر في شجاعة الناجين السوريين الذين كانوا شهودا ومشتكين في هذه المحاكمة، أولئك الذين سردوا قصصهم، وطالبوا بالعدالة والأجوبة، وسيستمرون في تحمل هذا العبء. إنها مسؤولية كبيرة وعبء عليهم. لذا، كانت لدي مشاعر مختلطة جدا.
بلقيس جرّاح (00:11:52)
قلتِ إن لديك شيئا ما تذكرتيه وتريدين مشاركته؟
أمينة صوان (00:12:00):
على المستوى الشخصي أعتقد أنه ليس من السهل تحقيق العدالة. فأنا أسأل نفسي باستمرار ما هي العدالة، وأظل أقول دائما إن العدالة والمساءلة، والفشل الذي نواجهه، إذا كان بإمكاني تسميته بالفشل، هي أمور لا تتعلق فقط بسوريا، بل هي فعلا أبعد من ذلك. ففي هذا العالم الذي نعيش فيه، نواجه مشكلة مع النظام الدولي. ننظر إلى الجريمة السابقة التي لم تنتهِ قط بنهاية أرادها الضحايا وعائلاتهم. لذا، فإن العدالة هي عملية طويلة الأمد وعملية معقدة ومتعددة المستويات، هكذا أراها. لها مراحل عديدة وليس فقط الخطوات القانونية في قاعة المحكمة، بالنسبة لي، الحفاظ على السردية هو تحقيق العدالة لسوريا. وهذا ما تفعله حملة من أجل سوريا، فهي تمثل هذا النوع من العدالة، ومحاربة التضليل والمعلومات المضللة من قبل الروس هي العدالة. أن نمتلك سرديّتنا هو إنصاف سوريا وجميع السوريين.
(00:13:30) حتى الآن، لا نملك الكثير من الخيارات. إما هذه الخطوة الصغيرة جدا، أو لا شيء. أعني لا شيء حقا لمئات آلاف الضحايا الذين عانوا انتهاكات مختلفة. وآمل أن يكون لدينا المزيد من التحقيقات الاستراتيجية والمزيد من الموارد التي يتم تخصيصها لوحدات الجرائم الدولية في البلدان. آمل أن يتم تخصيص تحقيقات وموارد استراتيجية في وحدات الجرائم الدولية في البلدان التي تعمل بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية، مثل قضية الخطيب. ومن المهم أيضا عندما يتعلق الأمر بالمحكمة والمحاكمات أن يشعر الأفراد بأنهم وعائلاتهم ومجموعاتهم المحلية منخرطون في عملية التحقيق بأكملها. جميع المعلومات ذات الصلة مهمة جدا، يجب الحصول عليها من خلال آلية توفر أقصى قدر من العدالة للناجين، وأقل الآثار السلبية المحتملة التي قد تؤثر عليهم نتيجة عملية التوثيق أو التحقيقات، أو حتى خلال جلسات المحاكمة، لأنني كنت هناك، كنت في كوبلنز ورأيت شهودا يتحدثون، إنه أمر مدمر. كان من المحزن أن أسمع ذلك. وفي أعماقي كنت أتعجب من مدى شجاعتهم ومدى صعوبة التحدث علنا عما حدث. وآمل في أعماق نفسي أن يتلقى هؤلاء الشهود الشجعان كل الدعم الذي يحتاجون إليه. أخيرا وليس آخرا، من المهم حقا النظر في تحقيق رؤية أكثر شمولا للعدالة التي لا ينبغي أن تقتصر على الشكاوى القانونية أو المحاكمات القانونية، بل يجب أن تكون لصالح إنشاء شبكة حماية اقتصادية اجتماعية للناجين، تتحمل فيها الجهات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني مسؤولياتها وتلعب دورا في حمايتهم ودعمهم.
بلقيس جرّاح:
ماذا كانت توقعاتك عندما بدأتِ بالتظاهر في 2011؟
أمينة صوان (00:16:26):
أعتقد أنه كانت لدينا توقعات عالية في 2011. لقد صدمنا حقا بسبب ما حدث وما شهدناه في السنوات العشر الماضية. كانت رحلة صعبة حقا، فنحن مشتتون في جميع أنحاء العالم بعيدا عن مناطقنا. هناك ناس في مناطق مختلفة داخل سوريا ومجموعات مختلفة في الشتات، لكننا ما زلنا نحاول النجاح، ونحاول الحفاظ على سرديّتنا، جنبا إلى جنب مع الناجين والأسر لتحقيق العدالة – أي نوع وأي وسيلة للعدالة يريدونها، ويشعرون أنها العدالة الصحيحة والخاتمة المناسبة لهم.
(00:17:26) بالنسبة لي العدالة هي سوريا بدون الأسد، والعدالة هي أن تكون سوريا آمنة لنا نحن السوريين الذين أجبروا على مغادرة سوريا، وستبقى العدالة ناقصة حتى تستهدف كل الأطراف في سوريا. نعم، ارتكب النظام السوري غالبية الانتهاكات. لكن يجب ألا ننسى أيضا الجرائم التي ارتُكبت في مناطق مختلفة من قبل داعش و"هيئة تحرير الشام" و"النصرة" و"قوات سوريا الديمقراطية" و"جيش الإسلام" وأيضا ما يسمى بـ "الجيش الوطني" في المناطق المحررة. نريد العدالة للجميع وهذه هي سوريا التي آمل أن نتمكن من رؤيتها في السنوات العشر أو الـ 20 القادمة.
بلقيس جرّاح (00:18:20):
ما أجمل ذكرياتك عن سوريا؟
أمينة صوان (00:18:24):
بالنسبة لي، سوريا تعني الأسرة. أجمل ذكرياتي عن سوريا تتعلق بعائلتي. في مسقط رأسي في غرب دمشق، كنا نجتمع معا، نتحدث ونأكل الطعام الذي أعدته والدتي في الحقول في نزهة. لم أذهب هناك منذ سبع سنوات وآمل أن أرى هذا المشهد يحدث من جديد. المشهد لن يكتمل، فسينقصه أخي وزوجته وابنهما أحمد، الذين قُتلوا في 2013، والذين سنتذكرهم إلى الأبد. لكن آمل أن نكون هناك.
بينته شيلر
بينته شيلر هي رئيسة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "مؤسسة هاينريش بول". حاصلة على دكتوراه في العلوم السياسية ومتخصصة في السياسة الخارجية والأمنية. من 2002 إلى 2004 عملت في السفارة الألمانية بدمشق، سوريا. في هذه المقابلة تتحدث بينته عن الانتفاضة السورية، وتعامل المجتمع الدولي مع النزاع السوري، وذكرياتها من الفترة التي قضتها في دمشق.
تابعوا بينته هنا: https://twitter.com/BenteSchellerبينته شيلر (00:00:00):
أنا بينته شيلر، رئيسة قسم الشرق الأوسط في مؤسسة "هينرش بُل" السياسية الألمانية القريبة من "حزب الخضر الألماني". أقيم في برلين، لكن كنت مقيمة في بيروت خلال السنوات السبع الماضية، وأدير مكتبنا هناك الذي يعنى بلبنان وسوريا. كما عملت سابقا في سوريا كباحثة، وأيضاً موظفة في السفارة الألمانية في السنوات السابقة.
بلقيس جراح:
ما الذي يحفزك على المستوى الشخصي في عملك بالمؤسسة.
بينته شيلر (00:00:45):
حسنا، أجده ملهما جدا. أعتقد أن رؤية الناس يجتمعون حول مواضيع معينة ذات اهتمامات دولية أمرا رائعا. قد تشعرين دائما، في سياق معين، كما لو كنت بمفردك. لكنني أعتقد أنه من خلال العمل الذي نقوم به في جميع أنحاء العالم، نرى أن هناك العديد من الأشخاص المتشابهين في التفكير وأجده أمرا مشجعا وملهما للغاية أيضا. أعتقد أنني تعلمت كثيرا خلال تواجدي خارج بلدي من المجموعات والنشطاء والفنانين المختلفين الذين كنا نعمل معهم، وأعتقد أنني محظوظة جدا في وظيفتي، رغم أن العديد من الموضوعات التي نتعامل معها بالطبع صعبة. في أوقات نشهد فيها عودة الاستبداد، يكون الأمر أكثر صعوبة للعديد من النشطاء الذين يعيشون بغية النضال من أجل حرية التعبير والعدالة والقضايا الأخرى.
بلقيس جراح:
كنت أقرأ إحدى المقالات التي كتبتها مؤخرا والتي تتحدثين فيها عن الاحتجاجات الأخيرة في سوريا. تصفين قمع الانتفاضة التي بدأت عام 2011 كتكرار للتاريخ، لكن على نطاق أوسع بكثير. لماذا تصفينها بأنها تكرارا للتاريخ؟
بينته شيلر (00:02:16):
لأننا نرى لحظات كثيرة شعر فيها السوريون فعليا أنهم مضطرون للنضال من أجل الحقوق وفي النهاية لم يتمكنوا من ذلك. أعني أنهم وصلوا دائما إلى حدود ما كانت الدولة تسمح لهم به، وما كان النظام السوري يسمح لهم به. أعتقد أن هذا هو الوضع الذي لم يتنازل فيه السوريون. استمروا في المطالبة بحقوقهم، رغم أنهم مروا بهذه التجارب السابقة التي كان الرد فيها عنيفا. كانوا يعرفون على الأرجح ما الذي سيحدث لهم، لكنهم لم يستسلموا لأنهم تعلموا أيضا من الماضي أنه ليس من المنطقي الاستسلام، لأنه في نهاية المطاف، النظام ليس منفتحا للإصلاحات ولن يمنح أي حقوق.
بلقيس جراح:
ما أكثر شيء لفت نظرك بشأن رد فعل الحكومة السورية على تلك الاحتجاجات التي بدأت عام 2011؟
بينته شيلر (00:03:15):
أعتقد أنها كانت طريقة مخادعة للغاية لتصعيد العنف تدريجيا. أعني أنها منذ البداية كانت تُطلق النار على المتظاهرين، وتعتقل الناس، لكني أعتقد أنها نجحت في إبقائه في مستوى متصاعد تدريجيا فقط حتى لا يُلحظ ولا تتم تغطيته إعلاميا، وكان ذلك أحد الجوانب. لكن فيما بعد، بالنظر إلى الماضي، عندما نُشرت كل تلك الصور أو أصبحت معروفة، والتي تُعرف باسم "ملفات قيصر"، وجدت أنه من المروع أن يكون أحد أبرز وأول ضحايا الموت بسبب التعذيب، حمزة الخطيب (13 عاما)، عندما ظهرت صورته بين صور قيصر، رأيت أن لديه بالفعل رقم، وهذا شيء لم نشهده مع سجناء سياسيين يموتون في المعتقل من قبل. حدث من قبل أن الناس تعرضوا للتعذيب حتى الموت في سوريا، لكنني لم أكن على علم أبدا بحالة أعطيت فيها رقما لهم. كان رقمه منخفض. يشير ذلك أيضا إلى أنهم بدأوا العد منذ البداية كما لو أنهم كانوا يريدون التخطيط لاستراتيجية طويلة الأمد لهذا الترقيم الخبيث للأشخاص الذين يحوّل الضحايا إلى أرقام ويحتفظ بسجل لهم.
بلقيس جراح:
برأيك، ما الخطأ الذي حدث في استجابة المجتمع الدولي للنزاع السوري؟
بينته شيلر (00:04:53):
أعتقد أن الأمور ربما سارت بشكل خاطئ حتى قبل أن تبدأ الثورة السورية، لأن النقاش حول ما حدث في ليبيا كان حديثا جدا. كان هناك الكثير من الناس الذين ينتقدون التدخل في ليبيا وكيف أنه لم يحقق ما كانوا يأملون فيه. لكن ليبيا كانت حالة مختلفة. بالتالي لم يكن من المقنع حقا سماع ذلك كتفسير. أشار الناس أيضا إلى التدخلات التي قادتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق في وقت سابق والتي من الواضح أنها سارت بشكل خاطئ، لكن بالنسبة لهذه الحالات أيضا، كانت الظروف مختلفة تماما وبالتالي لم يكن من العدل المقارنة بها. مع ذلك، في النقاش، أعتقد أنه عندما رأينا الثورة السورية، كان أول ما سمعته في دوائر صانعي السياسات، حسنا، لن نقوم بتدخل آخر لأن التدخلات لا تفعل شيئا جيدا ولن يكون لها نتيجة إيجابية لكننا سنراقب الوضع عن كثب. أعتقد أنه من الناحية الدبلوماسية، كان هذا خطأ. هذه ليست الطريقة التي يجب تبنيها. يبنغي بدلا من ذلك عكسها والقول، سنراقب الموقف عن كثب وبعد ذلك سننظر في الخطوات التي يجب اتخاذها. من خلال الحديث عن التدخل باعتباره شيئا لن يحدث، أعتقد أن القوة والنفوذ الدبلوماسيين كُبحا منذ البداية. قد يكون هذا الأسوأ لأنه أوْحى للأسد أنه في الأساس يمكنه التصرف كيفما شاء ولن يحاسب.
بلقيس جراح:
ما هو الدور الذي لعبه أو لم يلعبه "مجلس الأمن" من وجهة نظرك؟
بينته شيلر (00:06:37):
هنا منذ البداية، تمسكت الحكومة الروسية بملف سوريا. عطّلت معظم قرارات "الأمم المتحدة" التي طُرحت، أو أعتقد أنها أوقفت نصف القرارات المتعلقة بسوريا. أما بالنسبة للقرارات الأخرى، فهي إما خففت من حدتها، أو إذا اعتُمد قرار، لم تتابع تنفيذه أو منعت التنفيذ. لذلك، كان هذا مهما جدا بالنسبة لسوريا. هذه الطريقة التي يمكن أن تفلت الحكومة السورية من كثير من الأشياء. في الوقت نفسه، أيد مجلس الأمن الأممي الوهم بشكل رئيسي، أو التصور، التظاهر بوجود عملية سياسية ذات صلة بمجلس الأمن. نشأت "عملية جنيف" أيضا. لذا، هذين العنصرين سوية أخّرا أي نوع من العمل، ويرجع ذلك أساسا إلى دور روسيا.
بلقيس جراح:
في مقابلة أخرى لك، ذكرت أن سوريا مكان تَعطّلت فيه الأعراف الدولية والقانون الدولي أو عُطِّلت. هل يمكنك التحدث قليلا عما تعنيه؟
بينته شيلر (00:07:55):
نعم. أعتقد أن هناك الكثير من الأمثلة على ذلك في سوريا، لكن لنبدأ بأبرز استخدامات الأسلحة الكيميائية. الأسلحة الكيميائية محظورة دوليا منذ فترة طويلة، وهناك بروتوكول بشأن حظر الأسلحة الكيميائية وحيازتها وتجارتها وبالطبع استخدامها، ولم يكن لدى سوريا رسميا برنامج الأسلحة الكيميائية هذا، لكنها استخدمت بعد ذلك أسلحة كيميائية. استخدمها النظام ضد السكان في سوريا. كل ما حدث أنه بموجب صفقة بين الولايات المتحدة وروسيا، كان على سوريا تسليم هذه الأسلحة ومن ثم يمكنها الانضمام لاتفاقية الأسلحة الكيميائية. هذا مثال على الأشياء التي تسير بشكل خاطئ من البداية، وحيث يمكنك القول حقا أنه كان يجب التعامل مع الأمر بطريقة مختلفة. في النهاية، كان الأسوأ أنه حتى بعد كل هذا، استخدم النظام الأسلحة الكيميائية مرة أخرى، واستمر باستخدامها.
لذا، أعتقد أن هذا يوضح حقا ولأسباب وجيهة انتهاك قاعدة دولية مهمة جدا وهي حظر استخدام الأسلحة الكيميائية. ولم تُنتهك مرة واحدة فقط. ثم هل كان هناك عمل ومساءلة؟ لا، استمر انتهاكها. بالتالي، أعتقد أن هذا يوضح جيدا كيف يمكن للدول الأخرى والطغاة الآخرين أن تفعل الأمر نفسه، إذا تمكنت سوريا من الإفلات من العقاب، يشجعهم ذلك لفعل الشيء نفسه.
بلقيس جراح:
أعتقد أنني كنت أسألك عما إذا كانت هناك أي ذكريات من الوقت الذي قضيته في دمشق علقت في ذاكرتك وبقيت معك.
بينته شيلر (00:10:00):
بالفعل. هناك ذكرى باقية معي وأذكرها كثيرا حتى الآن، لأنها تتعلق بسجين سياسي أطلِق سراحه من السجن عندما كنت هناك. أنور البني، أحد محامي حقوق الإنسان السوريين الذين كنت على تواصل معهم، و [الاسم غير محدد] محام آخر اختفى قسريا للأسف أثناء الحرب، أرادوا مني أن أراه وأقابله. جلسنا هناك في المقهى وكان جالسا على الطرف الآخر من الطاولة، وبالكاد يستطيع أن ينظر في عيني لأنه لم يستطع رفع قبعته. كان ينظر إلى الأرض، ولم يستطع رفع رأسه. عندما علم أنني ألمانية، قال، "أوه، يا لها من مفارقة". سألته "ما هي المفارقة؟" قال: "إن أول شخص من الخارج يجب أن أقابله بعد إطلاق سراحي من السجن بعد كل هذه السنوات ألماني". ثم أشار إلى رقبته بأنه لا يستطيع التحرك، وقال: "تعلمين، أسلوب التعذيب الذي ارتكبوه ضدي، نسميه الكرسي الألماني". بالطبع كان ذلك حقا بداية صادمة للاجتماع. انتابني شعور سيء للغاية، وشعرت حقا بالفخر والتواضع لأنه شارك معي هذه المعلومة الشخصية والقوية جدا، رغم أنه لم يقابلني من قبل.
بلقيس جراح:
واو، شكرا لك على مشاركة ذلك بينته، وأعني، لأنك ذكرت أنور البني، أردنا أيضا أن نتحدث معك قليلا عن الدور الألماني في متابعة التحقيقات والملاحقات القضائية عن الجرائم المرتكبة في سوريا. بدأت السلطات القضائية في ألمانيا مبكرا جدا في التحقيق الفعلي، ما رأيك في أن هذا كان أولوية للشرطة الفيدرالية والمدعين العامين في مثل هذه المرحلة المبكرة من النزاع؟
بينته شيلر (00:12:12):
أعتقد أنها كانت أولوية لأنه كان هناك تاريخ طويل من انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، وخاصة بما يتعلق بانتفاضة أخرى. تلك التي حدثت في أواخر السبعينيات، وأوائل الثمانينيات، حيث كان حافظ الأسد، والد الرئيس الحالي، يرأس النظام السوري آنذاك، وردّ بوحشية شديدة وأخفى كثيرا من الناس. حتى الآن مصيرهم مجهول. أعتقد أن هذه التجربة التاريخية أو معرفة هذا الأمر، جعلت من الواضح أن أمرا مماثلا يمكن أن يحدث مرة أخرى. كان من المجدي تماما البدء بجمع المعلومات في هذه المرحلة المبكرة لأن النظام السوري أيضا كان لديه جهاز أمني أكبر بكثير من أي دولة أخرى في المنطقة، ولديه عديد من الفروع المختلفة والمتنافسة للمخابرات السورية. كان نظاما معقدا، وبالتالي، أعتقد أن ذلك كان ليكون دافعا آخرا لمراقبة ما كان يحدث وما يمكن أن نتعلمه عن جهاز المخابرات، وكيف كان يتصرف في هذه الحالات.
بلقيس جراح:
الآن، لنتحوّل قليلا إلى وزارة الخارجية الألمانية، والسياسة الخارجية الألمانية. هل تعتقدين أن ألمانيا تفعل ما يكفي في هذه المرحلة من النزاع عندما نتحدث عن التعذيب ومراكز الاحتجاز الخطيرة. مثلا، قد تكونين على دراية بجهود هولندا وكندا لمتابعة قضية في "محكمة العدل الدولية" بشأن التعذيب ومحاسبة سوريا على هذه الممارسات. هل تشعرين أنه بالإضافة للقضايا الجنائية في ألمانيا، ينبغي للحكومة أن تفعل المزيد؟ إذا كانت الإجابة نعم، فما هو؟
بينته شيلر (00:14:19):
حسنا، أنا أقدر ذلك كثيرا. أعتقد أن جهود هولندا وكندا تثير قضايا مهمة جدا، وربما كان من الممكن أن تنضم ألمانيا إليها، لكنني لست متأكدة مما إذا كان ذلك سيساعد القضايا حقا ويجعلها أقوى. لذلك أعتقد أنه من عدة نواحٍ، تصرفت وزارة الخارجية الألمانية بشكل جيد حقا، لكن التأثير لم يكن موجودا بسبب الوضع الدولي. ما أعتقد أنه عمل جيد هو التحدث بصراحة شديدة في الأمم المتحدة. لذلك بينما كانت عضوا غير دائم في مجلس الأمن، أعتقد أيضا أنها بذلت كثيرا من الجهد في دعم الأشخاص الذين عانوا من النزاع، وكذلك في محاولة التحقيق في عناصر معينة حول النزاع، مثل التحقيقات في استخدام الأسلحة الكيميائية التي كانت مدعومة كثيرا. "الآلية الدولية المحايدة والمستقلة" في الأمم المتحدة التي تجمع بشكل أساسي أيضا المعلومات والأدلة عن جرائم الحرب لتمكين الدول من ملاحقتها. تشارك ألمانيا بشكل كبير في كل هذه الجهود، لكن بالطبع ما كان مطلوبا لسوريا هو تحرك مجلس الأمن بشكل مختلف، ومنع حدوث انتهاكات حقوقية واسعة النطاق في سوريا. لم تحقق ألمانيا هذا، ولم تحققه أي دولة. بالنظر إلى الوراء، وفي هذه الحالة أيضا، علّقنا دائما على احتمالات المشاركة بشكل أكبر، وفعل شيء مختلف، لكن الأمر يتعلق بالإرادة السياسية. أعتقد أن ذلك يأتي من الأحزاب السياسية من الحكومة. الحكومة الألمانية لم تتمكن من استجماع شجاعتها أو اتخاذ قرار لتنفيذ ما كان من شأنه أن يغيّر المسار العام لسوريا.
بلقيس جراح:
على نطاق أوسع، بمجرد التفكير في المستقبل، أردت أن أسألك ما هو التالي بالنسبة لك فيما يتعلق بالعمل بشأن سوريا في المؤسسة. وبعد ذلك بشكل عام، ما هي آمالك بالنسبة لسوريا بعد 10 سنوات من الآن؟
بينته شيلر (00:16:52):
في المؤسسة، نواصل العمل الذي نقوم به فيما يتعلق بالمساعدة في نقاش أكثر استنارة. لذلك قمنا بمشاركة قصص عديد من السوريين. دعوناهم للتحدث عن أنفسهم ونحن مستمرون بفعل ذلك، لأنني أعتقد أنه من المهم جدا إبقاء ذلك على جدول الأعمال، وعدم التخلي عنه لأنه نزاع يعتقد الناس أنهم لا يستطيعون إيجاد حل له.
هناك العديد من الجوانب التي تحتاج إلى معالجة. أيضا العلاقة بين مختلف السوريين في الشتات أمر وثيق الصلة بالموضوع. نحن نحاول العمل على هذا. نقوم بذلك من برلين، وأيضا من مكتبنا في بيروت. أعتقد أن جهود التوثيق هي المحور لأننا نرى أن النظام ادعى أنه انتصر في الحرب. الآن يحاول كسب حرب السرديات. يحاول سرقة الرواية من أناس عانوا كثيرا في سوريا. هذه المرة الثانية التي يتعرضون فيها للخيانة. لذلك نحن نحاول العمل على هذا، والحفاظ على الذاكرة، ومشاركة القصص وإبرازها أيضا. لم ينته الأمر، فهو ليس ملفا مغلقا، ولم يفُت الأوان أبدا للعمل. يصبح الأمر أكثر إلحاحا مع الوقت بدلا من نسيانه.
بلقيس جراح:
وما أمنيتك لسوريا في السنوات العشر القادمة؟
بينته شيلر (00:18:14):
من البديهي أنني آمل أن تكون سوريا حرة. أن تتاح الفرصة للسوريين ليكونوا أحرارا ويصمموا مستقبلهم بأنفسهم. أعتقد أن الأمر يبدو صعبا للغاية بسبب الإرادة الدولية في عدم تغيير أي شيء. والوضع بالكاد مرئي. كما أن الأسد وأنصاره لا يُظهرون أي مؤشر على التراجع. ربما لن يتغيّر شيء، لكنني أعتقد أنه إذا تغيّر شيء ما، فسيكون من المذهل ما يمكننا رؤيته لأن النشاط والحراك السوري أذهلاني تماما. أنا معجبة جدا بكل الجهود التي يبذلها السوريون في سوريا، وفي السياقات الأخرى المختلفة التي أجبِروا على العيش فيها. إنهم نشيطون جدا ومبدعون وملتزمون جدا. رغم أنه لم يكن لدى كثيرون منهم الفرصة لبناء ما يريدون في المستقبل السياسي، لكنهم لم يستسلموا، وهو ما يعجبني جدا. إذا كانت لدي أمنية، فستكون أن يحصلوا على فرصة لفعل ما يتطلعون إليه دائما: بناء مستقبل أفضل لبلدهم.
وفا مصطفى
وفا مصطفى ناشطة سورية ومناضلة من أجل حقوق عشرات آلاف السوريين الذين اعتُقلوا أو تم إخفاؤهم خلال النزاع. تروي لـ هيومن رايتس ووتش كيف أخفت الحكومة السورية والدها، وتجربتها في النضال من أجل إطلاق سراحه ومحاسبة الجناة. تمنح المستمع نظرة ثاقبة عن واقع النشاط السياسي في سوريا، وكيف غيرت الانتفاضة السورية المشهد الوطني.
تابعوا وفا هنا: https://twitter.com/WafaMustafa9وفا علي مصطفى (00:00:00):
اسمي وفا علي مصطفى. صحفية وناشطة سورية من بلدة صغيرة بالقرب من مدينة حماة في سوريا اسمها مصياف. يمكنني القول إنني أنتمي إلى عائلة سياسية ليبرالية. لديّ نفسي، ولدي شقيقتان، ولا أعرف ما يمكنني أن أقول. الأمر ليس سهلا أبدا. ترهقني في كل مرة، لا أعرف، الصور، والضجيج، والأصوات، وكل شيء. الآن، عندما أريد قول أي شيء، أرى كل شيء، كل حياتي.
أعتقد أن الجميع في سوريا يعرفون أن السياسة لم تكن شيئا نتحدث عنه، ولم تكن شيئا تسمعين عنه في الشارع، في المدرسة، حتى في المنزل، لأن الجدران لها آذان. لكن والدي كان مهتما دائما بالسياسة. كنا نتكلم دائما. حتى عندما لم أفهم حقا ما كان يحدث، كنت أشعر أن شيئا ما كان يحدث دائما في بيتنا.
لكن الأمر لا يتعلق بوالدي فقط، بل بكل الحياة التي عشتها. أمضيت حوالي 10 سنوات أذهب مع والدي أسبوعيا، من مصياف إلى دمشق، كل يوم خميس بعد المدرسة للمشاركة في احتجاجات دعمت [فلسطين] والعراق، وبالطبع كان كل شيء يتعلق بدول أخرى وأماكن أخرى، ولكن كنا نعلم جميعا أن الأمر يتعلق أيضا بهذا البلد، وبنا. أعتقد أنني كنت في العاشرة أو التاسعة من عمري عندما شاركت في مظاهرة مع والدي لأول مرة. وقمنا بهذه الطقوس لسنوات.
كنت في السنة الثالثة، بدأت الثورة، أوقفت دراستي. كانت هناك دعوة لإضراب يسمى إضراب الكرامة وشاركت فيه. لم أذهب إلى الامتحانات؛ لم أعد أذهب إلى الجامعة. واعتُقلت في بداية سبتمبر/أيلول. في الواقع، اليوم هو الذكرى، ذكرى جميلة جدا. في مثل هذا اليوم، أعتقد بعد منتصف الليل، اعتُقلت في 2011 مع أختي، وابن عمي، وصديقين لي. وفي نفس الوقت اعتُقل أبي في حماة. وبالتالي، عانت أمي من اعتقال زوجها وابنتيها في مدينتين مختلفتين. نعم، أطلق سراحنا، بعد إطلاق سراح أختي في اليوم التالي، أطلق سراحي بعد بضعة أيام.
(00:03:00) كان بعضهم موجودا طوال حياتي، وكان بعضهم يختفي بعد فترة، على ما أعتقد. ربما اختلفوا فقط على السياسة أو أي شيء مع والدي. ولكن كان هناك دائما نقاش في بيتنا. لم يكن والدي من النوع الذي يقول: "يجب ألا تستمعي إلى ذلك"، لم يكن كذلك، كنت صغيرة جدا، لم يكن يقول: "اجلسي واستمعي"، لكنني طبعا كنت فضولية، لأن هذا هو المحيط الذي نشأت وعشت فيه. وأعتقد أنها كانت تلك اللحظة عندما كنت أتساءل، إذا كنا داعمين، لماذا لا نفعل شيئا؟ وأعتقد أنها كانت اللحظة عندما قال والدي شيئا مباشرا جدا، مثل، "نعم، تتظاهر الحكومة التي تحكم هذا البلد بأنها داعمة، وأنهم يفعلون الكثير، لكنهم في الواقع ليسوا كذلك". وكان ذلك موجزا للغاية، ولكن أعتقد أنها كانت أكثر لحظة مباشرة يخبرني فيها والدي شيئا كهذا. وبعد ذلك، أعتقد، تطور الأمر مع مرور السنين. ولكن أيضا، كانت هناك عناصر عديدة جدا. لأنه في الجامعة، الجميع، حتى المعلمين والموظفين – مصياف بلدة صغيرة جدا – الجميع يعرف آراء الآخرين السياسية.
(00:04:33) كان الجميع في الجامعة يعلم أن والدي كان ضد النظام، اعتُقل في 2004 على ما أعتقد. شيء ما حدث في مصياف، من الصعب شرحه، لكن حدث نوع من النزاع. لم تكن الأسباب المباشرة سياسية، ولكن بسببه، اعتُقل العديد من الأشخاص، وكان والدي من بينهم. قال الجميع في الجامعة: "اعتُقل والدك لأنه ضد النظام، ولأنه فعل كذا وكذا". وبالتالي، لم أكن وحدي من يعرف ذلك. كان الجميع في الجامعة يعلمون أن والدي كان ضد النظام، وبالطبع، لم يكن والدي فقط. كانت هناك مجموعة من الناس في مصياف معروفون بأنهم يجتمعون، وأنهم ضد النظام، ويفعلون أشياء. لكن أعتقد، لا يمكنني القول ذلك، أو على الأقل أشعر أنه ليس من العدل أن أقول إنني أتذكر اللحظة. لدي إحساس فقط أنه كان عام 2000، وبسبب لحظة الانتفاضة.
(00:05:57) لا أتذكر حتى اللحظة التي بدأت فيها الثورة في سوريا، أو لا أتذكر أنني مثلا كنت جالسة، ثم قررت أنني سأذهب وأتظاهر. لم يكن الأمر كذلك. لأنه قبل اندلاع الثورة في سوريا، لأن كل شيء حدث في درعا، وحتى في دمشق، كانت هناك هذه المظاهرات أمام السفارة المصرية، والتونسية، ثم الليبية. وبالنسبة لي، لطالما قلت إن الاحتجاجات أمام السفارة الليبية كانت حاسمة للغاية، لأنها كانت اللحظة التي هاجمتنا فيها الشرطة وبالتالي بقينا هناك ليومين.
كان اليوم الأول جيدا، ولكن في اليوم التالي، لم يكن اليوم الثاني كذلك. بدأ الناس يهتفون شيئا ما ضد القذافي، بالطبع، لكن كنا نحن والشرطة نعلم أن الأمر لا يتعلق به فقط وبما يحدث في ليبيا. وفي لحظة ما، شعروا بأنهم مهاجَمون بشدة، لذا هاجموا الاحتجاج فعليا، واعتُقل الكثير من الناس، وضُرب الكثير من الناس. وذكرت ذلك عدة مرات، صفعني شرطي، لأنني حينها كنت أرتدي قلادة لخريطة فلسطين. كانت لدي منذ عشر سنوات حينها. وصفعني على وجهي وقال: "عليكم أيها الفلسطينيون ألا تتدخلوا في الوضع السياسي السوري". شيء كهذا، لأنه ظن أنني فلسطينية.
(00:07:37) بالنسبة لي، كانت تلك هي اللحظة التي شعرت فيها أنها بدأت في سوريا. لن يحدث هذا وبعدها سننسى جميعا الأمر. وبالفعل، بعد بضعة أيام، بدأ كل شيء في درعا ودمشق. ولم أفكر بالأمر. لا أتذكر. لا أتذكر حتى المرة الأولى. لا أتذكر ماذا فعلت، لا أتذكر التفاصيل. أتذكر فقط أنني كنت هناك. لم يكن الأمر يدعو للتساؤل. لم أفكر هل أفعل ذلك أم لا. لم أناقش الأمر مع عائلتي أو أي شيء، لأنني كنت حينها في دمشق، وكانت عائلتي، أمي، وأبي، وأختي الصغرى في مصياف. لكن كنا أنا وأختي الوسطى في دمشق، لذا لم أتصل حتى بوالدي. لم نناقش أي شيء. أتذكر أنه عندما حدثت الثورة في مصر، كنت في مصياف، ولم ننم أنا وأبي لأيام. كنا في الواقع، إذا ذهب إلى النوم، أبقى مستيقظة، وإذا ذهبت إلى النوم... كنا نتناوب، لأننا كنا حرفيا متحمسين للغاية وكانت مصر أيضا شيئا... لا أعرف، بالنسبة لأبي كانت شيئا مهما جدا.
(00:09:14) قضينا أياما ننتظر، نشاهد الأخبار وننتظر اللحظة. لكن بعد ذلك عدت إلى دمشق، ولا أتذكر أنني اتصلت بوالدي عندما بدأ كل شيء في سوريا. أنا فقط، شاركت في احتجاج وبعد ذلك أعتقد، أتذكر أن أول مرة اتصلت كانت بعد، في 25 مارس/آذار، عندما كان الاحتجاج قرب "المسجد الأموي"، لأنني في الواقع، كنت وشك أن يتم اعتقالي هناك، نعم، لسبب ما عرفوا أنني من مصياف ولحسن الحظ بسبب كل الأسباب السخيفة والغبية، لم يعتقلوني. لأنني كنت من مصياف، لذلك افترضوا أنني مؤيدة للنظام ولحسن الحظ، لسنوات على نقاط التفتيش، لم أُعتقل لأنني كنت من مصياف. كانوا يظنون: "إنها من مصياف. إنهم موالون". وحتى أحيانا في المظاهرات، كنت أتظاهر كل يوم، في حي الميدان في دمشق، وهي منطقة محافظة، لكنني كنت هناك كل يوم وكانوا يرونني ولم يشكّوا أبدا بأنني كنت أتظاهر عندما يعرفون أنني من مصياف.
(00:10:50) نعم. وهذا حدث بالفعل. لكن أعني، الأمر يكاد يكون مضحكا. عندما اعتُقلت، ضُربت أكثر لأنني من مصياف. نعم بالتأكيد. لأنني كنت من مصياف ... كان السؤال دائما "ماذا تحتاجين؟ أنتِ من مصياف. كيف ذلك؟ كيف تجرئين؟" و"لماذا تتظاهرين مع هؤلاء الناس من كذا وكذا؟" أشياء يقولونها لكل شخص ليس من دمشق مثلا. وحتى أثناء الاستجوابات، كان الضابط دائما يسأل: "كيف ... ألم تخافي من الذهاب إلى الميدان؟ أنت تعلمين أنهم سُنّة، سيقتلونكِ"، الخ... أنا لا أتحدث عادة عن هذا لأنه كان مضحكا حقا بالنسبة لي. وكنت صغيرة، ولم أكن أعرف. وقد أخبرته بذلك بالفعل. كانت إجابتي، "أوه لا، إنهم لطفاء للغاية. إنهم أناس طيبون للغاية وعليك أن تذهب إلى هناك لترى".
(00:12:00) ولم يعجبه ذلك. وظل يدعوني غبية لأنه ... وفي وقت ما سألني: "هل هذا جوابك حقا؟ هل أنت غبية؟ لماذا تفعلين ذلك؟" وأنا فقط، لم أكن أعرف. وفي وقت ما، بصراحة، كنت أحاول التظاهر بأنني غبية لأنني اعتقدت أن ذلك سيكون أفضل، إذا ظن أنني غبية، فبالطبع لأنه كان يسألني، لماذا أنا ضد النظام؟ ولماذا لا أحب الرئيس؟ وحاولت بالفعل أن أشرح، لكنه كان يضربني في كل مرة أقول أي شيء، لذلك ... في مرحلة ما قلت: "حسنا، فلنلعب لعبة غبية. أنا غبية. لا أعرف وأعتقد أن الجميع لطفاء". وهذا في الواقع لم ينجح أيضا.
(00:12:58) اعتقدت أنني اعتُقلت بسبب... وللأسف، هذا... كل السوريين يشعرون بنفس الشيء. تشعرين بأنك اعتقلتِ لبضعة أيام. لا تستحق حتى الحديث عنها. طبعا الجريمة تظل جريمة، ولكن عندما ترين أشخاصا اعتُقلوا لسنوات، شعورك يكون، "لن أتحدث عن الأمر". ولكن حتى بعد اعتقال والدي، لم يعد الأمر... لم يعد الأمر مهما بعد الآن، لأن الأمر على الأقل أصبح من الماضي، لكنه ماض أمام حقيقة أن والدي معتقل، وهو الماضي، والحاضر، وآمل ألا يكون المستقبل. لكن للأسف، يبدو أن هذا في الواقع، هذا هو أسوأ جزء. نحن فقط - عدم اليقين هذا، لا نعرف حتى إذا ... لا أعرف حتى ما إذا كنت سأقضي حياتي كلها أتحدث عن الأمر، وأنتظر والدي. لكنني آمل ألا يكون الأمر كذلك.
(00:14:08) كان الوقت شهر رمضان حين اعتُقل والدي. كنت في دمشق مع أختي، ثم عرفت، علمت أن والدي اعتُقل من منزلنا في مصياف. لكننا عرفنا في تلك المرحلة، من اعتقله. كان فرعا في حماة، وعرفنا أنه متهم بدعم الإرهابيين، الذين كانوا في الواقع أشخاصا فروا من حماة، بعد أن هاجم النظام المدينة في رمضان ذلك العام. والدي، في تلك المرحلة، فعل ما فعله الجميع في مصياف. ساعد فقط، مثل تقديم المساعدة للأشخاص الذين فروا من حماة، ولذلك اعتُقل. لكن بعد بضعة أيام، كان شهر رمضان، ثم العيد وكانت أمي تقول: "عودي. نحن بحاجة إلى أن نكون معا".
وكان ... لم أستطع. أخبرتها أنني لا أستطيع العودة إلى المنزل حتى يكون والدي هناك. ولم أفعل، لأنني عادة حتى لو كنت في دمشق، نعود إلى مصياف لنقضي مثلا، رمضان والعيد معا. لكن في ذلك العام لم أستطع. وهكذا، حينئذ، أعتقد أنها كانت أول مرة تكون فيها مظاهرة بعد منتصف الليل، في الميدان. وبالتالي، ذهبت إلى هناك مع ابن عمي وكانت المظاهرة، كما تعلمين، حوالي 20 ثانية، وربما أقل من ذلك. وكان لدي صديق يتصل بي لأيام ويطلب أن نلتقي. ولسبب ما، لم أفعل ذلك. قلتُ: "أنا مشغولة. فنلتقِ لاحقا" الخ... وقد اتصل بي بينما كنت في المظاهرة، ثم هاتفي، أعتقد، أسقطت هاتفي وواصلت الركض.
(00:16:20) وبعد ذلك أعتقد ... كنت مع ابن عمي ننتظر في ساحة باب السلام وكنت أصلح هاتفي وما إلى ذلك. ثم بدأ نفس الصديق يتصل وقلت: "حسنا، لنلتقِ..." وكانت وقتها، كانت الساعة 12:30، بعد منتصف الليل. وقلت: "حسنا، أنا في هذا المكان، تعال". ثم كنت أقف مع ابن عمي هناك وكان الأمر مأساويا، كما تعلمين، كانت تلك اللحظة ... حدث الكثير. مر صديق لي كان أيضا في الاحتجاج في سيارة وقال: "لماذا أنت هنا؟ لماذا ما زلت هنا؟" وقلت: "أنا أنتظر شخصا. يكلمني باستمرار وأردت مقابلته قبل أن أعود". فقال: "دعيني آخذك إلى المنزل قبل أن تُعتقلي".
(00:17:25) وضحكنا. وقلت: "لا، ما هذه السخافة. لن أُعتقل، لا يهم". ثم غادر، ونفس هذا الصديق، للأسف، اعتُقل بالفعل وقُتل تحت التعذيب بعد عامين. ذلك الصديق الذي كان يتصل بي، كنت أنتظره مع ابن عمي، ثم جاء رجل ضخم وقال، "السيدة وفا"، لم أدرك حتى أنه دعاني باسمي، وقلت "نعم؟" ثم قال: "ماذا تفعلين هنا؟" فقلت: "حسنا، أنتظر صديقا". ثم قال: "هل يمكنك النظر إلى الخلف؟" فعلت، ففتحوا السيارة، عربة نقل، فرأيت صديقي هناك، معصوب العينين ومقيّد اليدين. وكان جوابي: "أجل، هذا صديقي". ثم قال: "لنذهب. من هذا؟" قلت: "ابن عمي"، ثم قال له: "حسنا، ستأتي معنا أيضا". ثم كنا في السيارة وكنت ... لأكون صادقة، لا أعرف حتى كيف حدث ذلك. كنت هادئة جدا جدا. وقلت: "هل يمكنني أن أعرف ما الذي يحدث؟" أضحك الآن لأنني لا أعرف حتى. أنا لا ... لا أستطيع أن أفهم أين، كيف فعلت ذلك؟ فقط قلت: "هل يمكنني أن أعرف ما الذي يحدث؟"
(00:18:57) ثم قال: "طبعا ستعرفين، لأننا كنا نحاول الوصول إليك منذ أيام". وقلت: "لا أفهم ما المشكلة، فلنتناقش". فقال: "سنتناقش لاحقا". قلت: "حسنا، إلى أين نحن ذاهبون؟" فقال: "نحن ذاهبون إلى المنزل". قلت: "حسنا. إذن، نحن ذاهبون إلى منزلي؟ هل أعطيك العنوان؟" ثم قال: "لا، نحن نعرف العنوان".
(00:19:24) ولكن لاحقا، أعتقد في 2018، انضممت إلى "عائلات من أجل الحرية"، وهي حركة تقودها النساء اللواتي اعتُقل أقاربهن وأحبائهن، أو أُخفوا قسرا، أو اختُطفوا، ليس فقط على يد نظام الأسد، بل "داعش"، و"جيش الإسلام"، و"قوات سوريا الديمقراطية". أعتقد أن الفكرة الرئيسية والهدف الرئيسي هو المطالبة بحرية جميع المعتقلين في سوريا ومع عائلات من أجل الحرية، أعتقد، ربما أصبحت... لا أعرف، ربما أكثر ... ليس أكثر نشاطا. كنت دائما، يمكنني القول إنني كنت ناشطة دائما، لكن ربما وجدت قنوات أكثر فاعلية. أتعرفين ما أقصد؟ ولاحقا ذلك العام، كنت أتابع المحاكمة، حتى قبل أن تبدأ. لدي بعض العلاقات مع "المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان". كنت أعرف أشخاصا هناك. وعلمت بهذه الشكوى حتى قبل اتخاذ القرار بالذهاب إلى المحكمة وكل شيء. وعندما بدأت الجلسات بالفعل في كوبلنز، لم أكن أفكر في الذهاب إلى هناك أو أي شيء. علمت بالأمر وكنت أتابع عن كثب ما كان يحدث. أعرف بعض الشهود وكنا نتحدث عن الأمر، وكنت أسمع من الناس عن ... هؤلاء الشهود حول ما يحدث، وكما تعلمين، لم تكن على وسائل الإعلام بعد، ولكن بيننا، أولئك الذين عرفوا عنها، كانت شيئا ضخما. لكن لم يكن لدي أي توقعات. حتى أنني لم ... لم أستطع تخيل كيف ستبدو المحاكمة وماذا سيكون رأي السوريين فيها؟
(00:21:22) ثم في اللحظة التي بدأت فيها، وكنت، رأيت اهتمام وسائل الإعلام وكل شيء، كان لدي شعور بأننا يجب أن نكون هناك. الأمر مهم جدا على العديد من المستويات المختلفة. طبعا، هي خطوة كبيرة، كما قلت مرارا وتكرارا، هذه خطوة كبيرة. لكنني كنت، كما أعتقد، قلقة من أن تُقدّم للسوريين على أنها العدالة لسوريا. وكنت متأكدة من أنها ليست كذلك. طبعا هذه خطوة واحدة، وهي خطوة كبيرة، لكنها ليست العدالة. ليس هذا ما تطالب به سوريا والسوريون منذ سنوات. هذه خطوة واحدة نحو ذلك، بالتأكيد. ولكنها ليست هي. وهذا لا ينبغي أن يمنعنا هذا من مواصلة ما نفعله، لأنه، الأهم، أننا الآن نحاكم أنور رسلان وشخصا آخر، وهذا مهم، لكننا نحاكمهم على جرائم ارتكبوها في الماضي.
(00:22:44) لكن هذه الجرائم ما زالت تحدث. لا يتعلق الأمر بوالدي فقط. بالطبع، الأمر يتعلق في المقام الأول بوالدي، لكنه ما زال يحدث. ما زال الناس يُعتقلون فعليا الآن في سوريا. لذلك، يجب علينا، أعتقد، كانت فكرتي الرئيسية عن الذهاب هناك أننا يجب أن نستخدم هذه المنصة وهذه اللحظة التاريخية للفت المزيد من الانتباه ولحشد الجهود والقول إننا بدأنا بالكامل، وهذا مهم، وعظيم. لكن علينا الاستمرار في العمل معا، لإنقاذ من يمكننا إنقاذه، لأنه لا يزال هناك أشخاص يمكننا إنقاذهم. إذا كنا سنقول فقط "نعم، فعلنا ما بوسعنا. انتهى الأمر. نحن نحاكم المجرمين".
(00:23:40) إنه مهم جدا لأنه لا يحدث فقط في ألمانيا. المحاكمات أيضا ... أعني، أو على الأقل تُرفع الشكاوى في دول أخرى، وهذا أمر عظيم. وهذه هي فكرتي الرئيسية عن العدالة: العدالة لسوريا تتمحور حول السوريين والضحايا. لذا، يجب أن يكون لنا دور في هذا. لن أكتفي بالجلوس في المنزل ومشاهدة الأخبار عن محاكمة سوريين في ألمانيا، من قبل السلطات الألمانية، وهو أمر عظيم. لكنه رائع لأن هذا ما لدينا الآن، لكنها ليست فكرتنا المثالية عن العدالة. طبعا، أريد أن تتحقق العدالة في سوريا، على يد السوريين. أريد أن يُحاكَم هؤلاء المجرمون على يدنا في سوريا، لكن حتى ذلك الحين، ما يحدث الآن جيد، لكننا جميعا بحاجة إلى بذل المزيد. كل من يشعر منا أن بإمكانه فعل المزيد أو أن بإمكانه فعل شيء ما.
(00:24:50) أعتقد أن ذلك كان مهما للغاية لأن التمكن من معالجة الكيان الذي كنا نحاول معالجته لسنوات أمر بالغ الأهمية. يعني ذلك أن جهودنا عنت شيئا وأن هناك نتيجة. لكن بصراحة، الشيء الرئيسي هو أنه ليس لدينا خيار آخر. حتى في اللحظات التي علمت فيها أن شيئا لن يتغير، أن هذا المجلس لن يفعل شيئا. لم يكن لدي خيار آخر. هذا ليس... أعني، على الأقل هذا ينطبق عليّ فقط. لا يمكنني إجبار أحد على القيام بذلك، لكن بالنسبة لي على الأقل، فإن الصمت ليس خيارا. ليس فقط بسبب والدي، بالطبع، وهو بالتأكيد السبب الرئيسي، وغني عن القول طبعا، ولكن حتى قبل أن يُعتقل والدي، كنت ناشطة. كنت أفعل أشياء. كنت أبذل قصارى جهدي. كنت أحاول كل السبل الممكنة لتُحقق الثورة أهدافها.
(00:26:16) ربما لن أتمكن من رؤية سوريا ديمقراطية حرة، لكن على الأقل أريد أن أبذل قصارى جهدي للتأكد من أن شخصا ما سيراها في المستقبل. ربما ليس أنا، وربما ليس الجيل القادم، لكن هذا ما فعله والدي. وهذا ما أريد أن أفعله. كنت أخبر شخصا بالأمس أنني أدركت مؤخرا أنني كنت أذهب لسنوات إلى الفعاليات وغيرها وأتكلم عن الاعتقال والمعتقلين في سوريا، لكنني لم أذكر اسم أبي... كنت فقط أقول: "نعم، اسمي وفا مصطفى، ووالدي معتقل". وأدركت أنه بعد مقابلة مع قناة الجزيرة عندما سألوني عن ... سألوني: "هل يمكنك أن تخبرينا بإحدى ذكرياتك مع أبيك؟" وبدأت بالبكاء لأنني لم أستطع. كانت أول مرة أشعر فيها أن الأمر حقيقي. أنا في الواقع لا أتحدث عن والدي كإنسان، كوالدي. أتحدث عنه كمعتقل وهناك أسباب كثيرة لذلك.
(00:27:40) لكن أدركت في مرحلة ما أنني حتى... أن هذا ليس عدلا لوالدي، وليس، بالتأكيد ليس عدلا لي. نعم، بدأت مؤخرا... قررت، حسنا، في كل مرة أتحدث فيها عن الأمر، أريد ذكر اسم والدي. هذا أقل ما يمكنني فعله. وبصراحة، لا يقتصر الأمر على عدم تحدثي عن والدي في الفعاليات وغيرها. ربما هي طريقة للتعامل مع الأمر أو كذا، لأنها أكثر مما يمكن لشخص تحمله. أعني، عمري 30 عاما ووالدي مختف منذ سبع سنوات. لكن هذا ليس شيئا تعتادين عليه. هذا ليس شيئا تقبلينه. و... في الواقع لست متأكدة كم يبدو هذا صحيا، لكن كل ما أفعله في حياتي يتمحور حول والدي وحقيقة ... اختفائه ... لمدة سبع سنوات الآن، كنا نحاول فقط معرفة ما إذا كان حيا أم لا. جربنا كل شيء، أوكلنا عدة محامين. دفعنا أموالا لأشخاص من النظام، أشخاص لديهم صلات، كما فعل جميع السوريين الآخرين.
(00:29:26) وفي مرحلة ما، قلت إنني أعتقد أن الذين يستحقون أكثر أن يشهدوا هذه اللحظة هم المعتقلون، هم والدي وجميع المعتقلين الآخرين والمختفين. وقادتنا هذه الجملة إلى فكرة ذهابي إلى كوبلنز، وبالتأكيد بدعم من عائلات من أجل الحرية و"حملة من أجل سوريا". لم أذهب هناك. أعني أنني كنت هناك، وقفت هناك لوحدي، لكنني لم أفعل ذلك لوحدي، بالتأكيد. وبالتالي، في أول مرة ذهبت هناك مع 61 صورة، وبمساعدة الأصدقاء وأشخاص رائعين من حملة من أجل سوريا، قمنا بذلك. مهما يكن، جلست هناك مع الصور وبقينا هناك، أعتقد، ليومين أو ثلاثة أيام متتالية. ثم صدمت من... وقفت هناك. لم أفعل شيئا. كنت جالسة هناك بين هذه الصور. كنا نتحدث فقط مع الناس الذين يمرون. كانوا يسألون لأن المشهد جذاب للغاية. وكان الناس... لم يمروا فحسب. توقفوا وسألوا: "من هؤلاء الناس؟ لماذا هناك أطفال؟ لماذا هناك نساء؟ لذلك علينا التحدث إلى الناس. كان علينا أن نشرح ما يجري، ولكن علينا أيضا أن نوصل هذه الرسالة إلى أنور رسلان نفسه.
(00:31:04) وما حدث بالفعل هو أنني في اليوم التالي أخذت ورقة، وكتبت المعلومات التي يكتبها جميع السوريين عندما يطلب منك أحدهم ... عندما تطلبين من شخص ما المساعدة للحصول على معلومات عن شخص معتقل. تفعلين نفس الشيء، تكتبين معلومات عن أسمائهم، وأسماء آبائهم، وأسماء أمهاتهم، ومكان ميلادهم، الخ... وتاريخ الاحتجاز، وغيرها. ففعلت، كتبت شيئا بالعربية والإنغليزية. وذهبت إلى المحامي وقلت له: "أريدك فقط أن تعطي هذه لأنور رسلان. وأريدك أن تخبره أن هذا ... ما تفعله عائلات المعتقلين أحيانا ثلاث، أو أربع، أو خمس مرات في اليوم. ولا أريد معلومات عن أبي، أعلم أنه لا يعرف شيئا، لكنني أريده أن ينظر إليها ويفكر في عائلات المعتقلين الذين يعرفهم".
(00:32:05) اعتُقل أشخاص كثر في سوريا بدون سبب. وجميعهم يستحقون العدالة، جميعهم يستحقون أن يكونوا أحرارا. لكنني لن أحرم والدي من الحق في قول أسباب اعتقاله واختفائه. كان والدي مهتما بالسياسة، وكان ناشطا. وكان الكثير من الناس كذلك... نزلوا إلى الشوارع، وطالبوا بالحرية، والعدالة، والديمقراطية في دولة القانون وهذا هو سبب اعتقالهم. الأسباب مهمة. لا يمكنك فقط الحديث عن المعتقلين، لأنهم محتجزون... الأسباب مهمة.
(00:32:45) ذات يوم، كنت أتحدث إلى أم أخبرتني: "أوه، لا أريدك أن تشاركي هذا الفيديو الذي ترجمته لأنه يقول ..." لأن فيه اسم ابنها، الذي احتُجز لساعة، وثماني سنوات أيضا. وسألتها لماذا. فقالت: "لأنني لا أريد أن أبدو أنانية. ابني ليس المعتقل الوحيد في سوريا". وكان ذلك محزنا جدا. وهذا، أعتقد، معظم عائلات المعتقلين ... هكذا نفكر، وهذه هي الطريقة التي نتصرف بها. لكنني أحاول الآن تغيير ذلك لأن هذا ليس منصفا بحقنا. إبعاد أنفسنا عن أحبائنا أمر غير منصف. وهذا في الواقع، لا يخدم أحدا. لا يساعد أحدا.
باتريك كروكر
باتريك كروكر محامٍ ألماني في "المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان". في مقابلته الأولى مع هيومن رايتس ووتش، يتحدث باتريك عن المراحل الأولى لمحاكمة كوبلنز التي لم تكن قد بدأت بعد، والناجين الذين مثّلهم ودوافعه الشخصية لخوض هذه القضية.
تابعوا باتريك هنا: https://twitter.com/pkroker2
باتريك كروكر(00:00:00):
اسمي باتريك كروكر. أنا محام ألماني مجاز، وأمثل ثمانية ضحايا في هذه القضية مع محام شريك، ستة منهم سيكونون أطرافا مدنية في القضية حتى الآن. قُبلت طلباتهم، بينما لا يزال طلبان آخران معلقان للمحاكمة التي ستبدأ غدا.بلقيس جراح:
هل يمكنك إخبارنا قليلا عن القضية؟ ما موضوع هذه المحاكمة؟
باتريك كروكر (00:00:35):
بالتأكيد. المحاكمة تتعلق بمتهمَين يواجهان اتهامات مختلفة جدا برأيي. بأنور ر.، الذي يُزعم أنه ترأس سجن تعذيب تابع للمخابرات العامة السورية في دمشق عامي 2011 و2012. اعتُقل في ألمانيا حيث يقيم منذ عدة سنوات. كانت هناك أيضا تحقيقات مسبقة لعدة سنوات قبل اعتقاله، ويواجه حاليا لائحة اتهام لـ 4000 حالة تعذيب و58 جريمة قتل وقضيتَي عنف جنسي كجرائم ضد الإنسانية في المحاكمة التي ستبدأ غدا. المتهم الثاني، إياد غ.، متهم بالتواطؤ في 30 حالة تعذيب كجريمة ضد الإنسانية.
بلقيس جراح:
هل تستطيع أن تحدثنا قليلا عن الذين تمثلهم؟
باتريك كروكر (00:01:40):
طبعا. أكيد، إلى حد ما. أيضا بالطبع، من الصعب جدا دائما التعميم لأن لدي ثمانية موكلين، وهم ثمانية أفراد لديهم دوافع وخلفيات وتجارب فردية، ولكن هناك بعض الجوانب العامة التي يمكنني مشاركتها أيضا. إنها مجموعة متنوعة تماما برأيي فيما يتعلق بالعمر والخلفيات، إذا جاز التعبير. هؤلاء الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين أواخر العشرينيات ومنتصف الستينيات، امرأتان وستة رجال، وما يوحدهم أنهم كانوا نشطين بطريقة ما عامي 2011 و2012 في الانتفاضة السلمية في سوريا في ذلك الوقت. لهذا السبب، وُصِفوا بأنهم معارضون للنظام السوري، باعتباره تهديدا واضحا، ولهذا السبب، احتُجزوا في الفرع الذي يُزعم أن أنور ر. قاده. احتُجز بعضهم لفترات أطول وتعرضوا جميعا للتعذيب خلال تلك الفترة. تعرض بعضهم أو معظمهم في الواقع لسوء المعاملة الجسدية الشديدة من خلال، مثلا، التعليق من معاصمهم، وهي طريقة تعذيب تعرف باسم الشبْح. تعرضوا أيضا للضرب بالأدوات، والصعق بالكهرباء، وما إلى ذلك. عانوا جميعا من ظروف الاحتجاز الرهيبة هذه، حيث، أولا وقبل كل شيء، لا تعرفين حقا أين أنت في كثير من الأحيان، وما الذي يحدث لك. كل شيء محاط بالسرية والظلام. الظروف تشمل زنازين قذرة جدا، مكتظة جدا في أحيان كثيرة، نقص في الطعام والمياه، وبالكاد توجد أي رعاية صحية. تسمعين باستمرار صرخات الآخرين تحت التعذيب.
(00:03:45) وأعتقد أن كثيرا منهم، بالنسبة لمعظمهم، معرفة الحقيقة مهمة جدا أولا وقبل كل شيء، معرفة المزيد عن نظام التعذيب، معرفة ما حدث بالضبط، من الذي أصدر الأوامر، وما إلى ذلك. أيضا، عندما أقول نظام التعذيب، فعلينا حقا أن نضع في الاعتبار أنه ليس سوى جزءا واحدا من أجزاء كثيرة من نظام موجود في سوريا، وكان موجودا منذ فترة طويلة قبل عام 2011، وهذا نوعا ما، يمكن وصفه بأنه الحمض النووي للحكم في سوريا من قبل الحكومة الحالية والذي استُخدم لسحق الانتفاضة المدنية في البداية. هذا حقا ما يعرفه جميع موكلينا بأنه نظام أكبر، ويريدون أيضا معرفة الجميع ويريدون التحدث عنه ويريدون الكشف عن حقيقة هذا النظام. لفهم ذلك بالطبع، هذه محاكمة جنائية وسيشاركون في محاكمة أنور ر. ويقدمون شهاداتهم، وما إلى ذلك، لكنهم يتحدثون أيضا عن جميع الآخرين الذين ما زالوا حتى يومنا هذا معتقلين في هذه الظروف المروعة، أو الذين ربما ماتوا أثناء الاحتجاز، أو يخافون من الانتقام إذا شاركوا، وما إلى ذلك. لذا، من العدل أن نقول إنه حقا بالنسبة لجميع موكلينا، يتعلق الأمر، على الأقل أيضا بالقضية الأوسع، إذا جاز التعبير، ويتجاوز حالاتهم الفردية. توضح المحاكمة حقا كيف يعمل النظام الذي يشغله كثير من الأشخاص الأقوياء الذين يرتكبون هذه الجرائم حتى يومنا هذا.
بلقيس جراح:
أردت أن أسألك، نعرف بعضنا منذ فترة، ولكن ما اللحظة التي عرفت فيها أنك تريد القيام بهذا النوع من العمل؟ ليس هذا على وجه التحديد، ولكن فقط القانون الجنائي الدولي بشكل عام. هل تتذكر أول ما أثار اهتمامك؟
باتريك كروكر (00:06:05):
بالنسبة لي، المثير حقا في هذا المجال من القانون هو أنه يتعلق حقا بشيء أساسي جدا وحيوي جدا لكل شيء. كما تعلمين، الإنسانية تدور حوله، إذا كان يجب استخدام هذه الكلمات الكبيرة. أعني، إذا كنت تريدين نقاش الطابع الشامل والعالمي للقيم، وما إلى ذلك، أعتقد أن الإبادة الجماعية محظورة، فهذا حقا شيء تتفق عليه جميع الكائنات. هذا النوع من القانون قابل للتطبيق في هذه المواقف المتطرفة. كيف يمكن لشيء صنعه البشر، وهو القانون، أن يعمل في المواقف التي حدثت فيها مثل هذه الفظائع الجماعية؟ كيف تتعامل المجتمعات مع ذلك؟ وكمحام، كيف يتعامل القانون مع ذلك؟ وهل هذا ممكن؟ وماذا نفعل حتى نتصالح مع ذلك؟
(00:07:02) وهذه الأنواع من الأسئلة، منذ بداية دراستي القانون أو حتى قبل ذلك، لفتت انتباهي حقا. حتى قبل كلية الحقوق، أتذكر، أعتقد أنه كان عيد ميلادي الـ 18 حين أهدتني عرّابتي، وهي أيضا محامية وقاضية، ملف محاكمة نورمبرغ، وقرأتُه كله ووجدته مثيرا للاهتمام حقا. أعتقد أن هذا وثيق الارتباط بماضي بلدي، بألمانيا، وهذا العنف الرهيب الذي ارتُكب هنا خلال الحرب العالمية الثانية، والهولوكوست، وجرائم الحرب والعدوان، وما إلى ذلك. نشأت في هذا الجو، ماذا نفعل بذلك؟ كيف نتصالح مع ذلك؟ كيف يمكننا، في جيلي، التحدث والتصرف مع مجموعات الضحايا؟ ما هي مسؤوليتنا؟ ماذا كانت مسؤوليات آبائنا أو جيل أجدادنا؟ ماذا حدث، وأكثر، ما الذي لم يحدث؟ إلخ. كانت هذه كلها، في تربيتي، أسئلة مهمة جدا، على الأقل بالنسبة لي، وذلك كان أول نقاش لهذه الأسئلة والتعامل معها في إطار القانون. وجدت هذا رائعا جدا ثم تابعته باستمرار حتى أصبحت، نعم، منخرطا فيه تماما، إذا جاز التعبير.
سماء محمود
سماء محمود ناشطة سورية. تتحدث سماء في هذه المقابلة عن شهادة والدها في محاكمة كوبلنز، وأهمية الشهادة لها ولوالدها. تعرب عن أملها في أن يُفرَج ذات يوم عن عمها حيّان الذي أخفته الدولة السورية قسرا. كما تتحدث سماء عن لعبة أهداها إياها عمها في عيد ميلادها عندما كانت طفلة، وكيف طلبت أن تُرسل إليها منزلها في سوريا إلى ألمانيا حيث تعيش الآن.
تابعوا سماء هنا: https://twitter.com/samaamahmoud69سماء محمود (00:00:00):
انا سماء محمود من سوريا من مدينة السلمية عمري 21 سنة، أدرس في الجامعة.
لا أستطيع حتى أن أتخيّل ما كان ممكن أن يحصل لنا لو بقينا في سوريا إلى هذه اللحظة أو إذا كنا فعلا في سوريا. عقلي لا يقبل أن يتخيل، فعلا لا أستطيع أن أتخيل. أنا سعيدة جدا هنا. دائمة أقول ألمانيا بلدي الثاني. ليست جنة لكنها بلدي الثاني.
شعوري تجاه سوريا اليوم، الشفقة والحزن الانكسار. شفقة على الناس هناك الذين يعيشون في كل المناطق. الانكسار، أن حلمنا انكسر. هذا الحلم الذي كنا نريده أن يتحقق انكسر، خيبة أمل صراحةً. خيبة أمل.
(00:02:41):
تابعت محاكمات كوبلنز بادئ الأمر في الإعلام ثم عرفت من والدي ما يحصل في كوبلنز، لأن المعتقل هناك الضابط السابق أنور رسلان هو الذي اعتقل عمي بتاريخ 17/07/2012 من مشفى المشتهد في الشام. اعتقل عمي حيان محمود وعمي مختفٍ قسريا منذ تلك الساعة. وطُلب أبي كشاهد بالبداية ثم كان في كوبلنز كشاهد ومدعٍ. صلتي مباشرة تقريبا بالمحكمة بهذا الإجراء كله. لكن لم أكن هناك إطلاقا. لم أحضر الشهادات، لا أستطيع، أعني نفسيا. فقط تابعت التقارير التي كانت تُكتب، قرأتها كلها لكن لم أكن هناك شخصيا.
(00:04:29):
المحكمة ومحاكمة سوريين متهمين بجرائم حرب شيء ضروري جدا وخطوة ضرورية جدا لتحقيق العدالة إن كان للمعتقلين السابقين الذين خرجوا أو لأهالي المعتقلين والمختفين قسرا، هذا شيء ضروري جدا. هذه هي العدالة، هذا الشيء الذي نريده، الذي نطمح إليه وأنا أطمح إليه. أنا أراها خطوة كبيرة جدا، خطوة لم أكن أحلم أن أراها صراحةً لأن هكذا أمر يأخذ وقتا طويلا جدا، لكي تتم محاكمة هكذا أشخاص أو ليتم مثل هذا الأمر عالميا، على المستوى العالمي. فعلا، شيء يدعو للتفاؤل. دعيني أقول إنني استطعت أن أرى هذا الشيء وأبي استطاع أن يرى هذا الشيء وباقي العائلات التي لديها أحد ما مختفٍ قسرا. المعتقلون السابقون كانت لديهم فرصة أن يقفوا أمام جلادهم ويقولوا له أنت متهم ونحن نحاكمك. شيء مهم وضروري جدا.
(00:06:22):
قصة الدمية من سوريا التي لم أجلبها معي. هي دمية النمر الوردي لكن بحجم كبير. هي أول هدية تلقيتها أول ما جئت إلى الدنيا. وكانت هذه الدمية من عمي حيان. فرافقتني في كل مراحل حياتي منذ كنت طفلة صغيرة إلى أن صار عمري 15 سنة وخرجنا من سوريا. وهذه الدمية أنا أحبها كثيرا. عندما كنت صغيرة كنت أضمها حين أخاف لأنها كبيرة جدا، يعني طويلة، النمر الوردي طويل. فأضمه وأنام حين أشعر أني خائفة خايفة مثلا، أرقص معه "سلو". كنت أحبها كثيرا، لكن كما قلت لك، في ظروف خروجنا، لم يكن بإمكاني آن آخذ شيئا كهذا إطلاقا. أمي تركت كوبا على الطاولة كأنه لم يخرج أحد من البيت. أكيد لم يكن بإمكاني أن آخذ لعبة بهذا الحجم. مرت فترة وشعرت أني لا أستطيع أن أجلب هذه اللعبة معي. لكن هذه اللعبة تعني لي الكثير. كثير جدا. منذ فترة، نحو شهر تقريبا، تواصلنا مع أقربائنا في السلمية وكان هناك شركة شحن تنقل حاجيات من سوريا إلى ألمانيا أو أوروبا بشكل عام. رتبنا كرتونة صغيرة وفي داخلها النمر الوردي ووصل إلى ألمانيا. وصلني النمر الوردي إلى ألمانيا بعد... رأيته في 2014، وصل في 2021 إلى ألمانيا إلى بيتي. فتحته وانصدمت لأن قماشته كانت منهكة جدا، حاجباه ممحيان، أنفه مضروب قليلا. يلزمه خياط وترميم. أخذت أشمه، مع أن رائحته مسحوق غسيل، أي مغسول ليس له أي رائحة تذكّرني بشيء معين، لكن أخذت أشمه وأضمه وأرقص معه "سلو" وأنا عمري 21 سنة، كما كنت أرقص معه وأنا عمري 10 سنين، ونيّمته على الصوفا وغطيته. أحسست أني أريد أن أتذكر تلك اللحظات. نظرت إليه للحظة وحسيت بالسنين التي مرت كيف كان وكيف الوقت أثّر عليه وعلى قماشه وشعرت أنه مثلنا نحن. نحن هذه الندوب وهذا التعب بالقماش هو داخلنا. لأننا ما زلنا على قيد الحياة. سيترمم كما أريد لكن يجب أن أجلب الأشياء اللازمة.
(00:09:44):
هذه هي المشاعر التي انتابتني أول ما رأيته، سررت كثيرا. للحظة شعرت أنه حين يخرج عمي حيان بخير وسلامة، إذا كان موجودا، سأقول له: "انظر ماذا جلبت ماذا أحضرت من سوريا. أحضرتها تحديدا من سوريا لأنها منك ولأنها تعني لي الكثير". انشالله يا رب.
ديانا سمعان
ديانا سمعان مساعدة أبحاث سابقة في هيومن رايتس ووتش وهي الآن باحثة سوريا في "منظمة العفو الدولية". وثّقت ديانا انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا منذ بداية الانتفاضة السورية. في مقابلتها مع هيومن رايتس ووتش، تستعيد التطورات المبكرة للنزاع السوري وتتحدث عن تأثير محاكمة كوبلنز على العدالة الدولية.
تابعوا ديانا هنا: https://twitter.com/SemaanDianaبلقيس جراح (00:00:00):
هل يمكنك أن تعرّفينا عن نفسك وإخبارنا عن عملك حاليا؟
ديانا سمعان (00:00:05):
أنا ديانا سمعان، باحثة سوريا في "منظمة العفو الدولية" وأعمل في بيروت. حاليا أغطي اليمن أيضا، لكن على مدار السنوات الـ10 الماضية، ركّزت على سوريا بشكل أساسي.
بلقيس جراح:
قلتِ إنك بدأت العمل في مساندة باحثة سوريا في هيومن رايتس ووتش. هل كان هناك فريق متخصص يعمل على سوريا؟ كيف كان ذلك؟ وما كان دورك بالضبط؟
ديانا سمعان (00:00:45):
عندما... أتذكر، وأقولها مجددا، لأنني انضممت قبل أيام قليلة من اندلاع الاحتجاجات، فكنت هناك منذ البداية. وكان الوقت الذي كان فيه العالم العربي، كما هو معلوم، يشهد حركات احتجاجية مماثلة في مصر وتونس وأماكن أخرى. ولم يكن من المتوقع أن يحدث الشيء نفسه في سوريا بسبب القمع الذي مارسته الحكومة لعقود. لذلك عندما حدث ذلك، تم تحويل جميع الموارد – معظمها – لدى هيومن رايتس ووتش نحو سوريا، حتى نتمكن من العمل وتوثيق كل ما كان يحدث في البلاد. يجب أن أشدد أننا لم يكن بإمكاننا الوصول [إلى سوريا]، فكنا بحاجة إلى المزيد من الموارد لنتمكن من القيام بكل العمل عن بعد.
والذكرى التي ظلت عالقة معي حتى اليوم كانت في الواقع – هكذا بدأت عملي في سوريا – كانت عندما رددت على مكالمة هاتفية مع مكتب هيومن رايتس ووتش في بيروت في 17 أو 18 مارس/آذار، لا أستطيع تذكر التاريخ الدقيق. وكانت زوجة أحد الحقوقيين البارزين وكانت تتصل بنا لتقول إن زوجها اعتُقل خلال اعتصام أمام إحدى الوزارات في مدينة دمشق. وأتذكر جيدا، الخوف في صوتها، والارتباك، وقليلا من العجز. في البداية، لم أفهم هذا الخوف، ولكن بعد بضعة أسابيع ومع زيادة وتواتر وحجم الاحتجاجات في درعا ودمشق، والقمع القاسي بحق المتظاهرين الذي تلا ذلك، كان من الواضح أن الحكومة السورية، شنت أو بدأت رسميا هذه الحملة المنظمة للاحتجاز التعسفي، والتعذيب والإخفاء ضد السوريين، وهو ما يزال مستمرا حتى اليوم.
(00:02:47)
تلك المرأة، قضى زوجها ثلاث سنوات في الاحتجاز. وخلال تلك الفترة، لم يكن لديها أي فكرة عن مكانه، أو إذا كان حيا أو ميتا. لم تتلقَّ سوى أخبار من المحتجزين المفرج عنهم، الذين أخبروها أنه تعرض أو يتعرض للتعذيب وسوء المعاملة. عمليا، عُزل زوجها عن العالم الخارجي، ولم يُسمح له بالتحدث إلى عائلته أو محاميه أو أي شخص آخر. وفي الواقع، اعتُقل محاميه بعد شهرين، ومصيره ومكانه مجهولَين حتى اليوم. على أي حال، قصته تمثل واحدة من عشرات آلاف الحالات الأخرى من محتجزين - ومعظمهم من الرجال – أُخذوا واختفوا في سوريا في العقد الماضي. بعد هذه المكالمة الهاتفية، قدمتُ... دعمي، لأنه كانت هناك حاجة إلى جميع الموارد حتى نتمكن من التعامل مع كل هذه الانتهاكات التي تحدث. وهكذا بدأت العمل على سوريا. وثّقت بشكل أساسي احتجاز المتظاهرين، ولكن أيضا، إطلاق النار على المتظاهرين أو الحرمان من الرعاية الطبية وما إلى ذلك.
بلقيس جراح (00:04:15):
وكيف أثّر ذلك عليكِ؟ أعني، لا بد أنه كان من الصعب جدا سماع كل هذه القصص، والقيام بعملك هذا لسنوات عديدة.
ديانا سمعان (00:04:36):
نعم، سماع هذه القصص مؤلم للغاية، ولكن في مرحلة ما خلال الـ 10 سنوات، كنت فقط أتعلم كيفية محاولة استيعاب كل ما أسمعه وأحاول النظر إلى الصورة الأوسع، وقد تحدّث هؤلاء الأفراد أو الناجون أو الضحايا إلينا على الرغم من كل ما مروا به، لأنهم ينظرون أيضا إلى الصورة الأوسع، إذ يريدون الحفاظ على الأدلة، والمساءلة، حتى لو استغرق الأمر عقدا آخر. لذلك، هذا هو الشيء الرئيسي الذي يدفعني إلى الاستمرار، وآمل أن أستمر في العمل على سوريا حتى النهاية، وهو أكثر ما يجعل الاستمرار أسهل عليّ قليلا.
بلقيس جراح (00:05:35):
كنت على وشك سؤالك، هل هذا ما يبقيك متحمسة لمواصلة هذا العمل؟
ديانا سمعان (00:05:40):
نعم، الأمر كذلك. ومحاكمة كوبلنز، بالتأكيد أعادت تأكيدها لي وللسوريين أكثر منا نحن الباحثين، لأننا نتفاعل مع السوريين طوال الوقت، ليس فقط لسماع ما مروا به، ولكن أيضا لفهم المزيد عن سبب قيامهم بما يفعلونه، وهو مواصلة التعبير عن رأيهم على مدى السنوات الـ10 الماضية. لا أبالغ عندما أقول أنه لا يوجد شخص واحد، ولا سوري واحد، ممن تواصلت معهم كان قد رفض التحدث معي، ولا أحد. وهذا يعطيني أيضا الدافع لمواصلة حقيقة أننا نفعل ذلك لهدف أكبر، لأننا جميعا علمنا... توقعاتي كانت محدودة منذ البداية. أنا من لبنان، أنا من المنطقة. أعرف هيكلية الاضطهاد في سوريا. كنت أعرف والسوريون كانوا يعرفون أنها لن تكون معركة سهلة. كانت ستطول بالطبع. لم يتوقع أحد أن يكون الأمر بهذه الصعوبة، لكننا علمنا أنها كانت رحلة طويلة. لذلك كما تعلمين، فإن خفض سقف توقعاتنا منحنا أيضا تلك الدفعة الإضافية التي نحتاج إليها.
بلقيس جراح (00:07:05):
أنت تعملين على سوريا منذ 10 سنوات. هل توقعتِ حدوث محاكمة، كتلك الحاصلة في كوبلنز في أي وقت مضى؟
ديانا سمعان (00:07:18):
لا. لم أفكر في ذلك قط. اعتقدت أن المحاكمات ستحدث، لكنني لم أكن أتوقع صدور الأحكام أو النهاية التي وصلت إليها المحاكمات، أي إصدار حكم، في النهاية. لكنني أذكر، أن المنظمات السورية كانت تسبقنا، فقد سبقتنا في التفكير في الولاية القضائية العالمية. لأنني أتذكر ذات مرة ومع تدفق اللاجئين إلى البلدان الأوروبية، كانت قد أخبرتني منظمتان أو ثلاث أن هذه خطوة إيجابية نحو الولاية القضائية العالمية وإمكانية إجراء محاكمات في ألمانيا وأماكن أخرى في البلدان الأوروبية التي لديها ولاية قضائية عالمية. وبمجرد بدء المحاكمة، تذكرت تلك اللحظة، وشعرت أنها ممكنة. آمل أن يستمر ذلك، وأن ينمو في بلدان أخرى، وليس فقط ألمانيا. لم أكن أعتقد أن ذلك سيحدث، ولكن الآن بعد أن حدث ذلك، يمكنني أن أرى حدوثه ممكنا قليلا - أكثر من ذلك بكثير - في بلدان أخرى. وأرى أو قد أرى المنظمات السورية مدفوعة للاستمرار، لأنها بالتأكيد أعطتهم الأمل: للسوريين بشكل عام، ولكن لنا أيضا كباحثين في حقوق الإنسان.
بلقيس جراح (00:08:55):
وهل تشعرين أن المحاكمة في كوبلنز، أو قضايا أخرى من هذا القبيل لها أي تأثير داخل سوريا ؟
ديانا سمعان (00:09:13):
بالطبع لها تأثير. عندما نتحدث عن الناس داخل سوريا، كالناس في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، فإنهم بالتأكيد يراقبون ما يحدث. ونحن نعلم أنه بالنسبة للأشخاص الذين يدخلون ويخرجون، أقابلهم هنا في لبنان، كالأشخاص الذين يعيشون في شمال غرب سوريا وفي المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة، لقد منحهم ذلك الأمل بالتأكيد. لم يتوقفوا عن التفكير في ذلك ولم ينته، إنهم... لم يخسروا. أعني، لقد منحهم الأمل، لكنهم بالطبع يعيشون في منطقة يعانون فيها من الكثير بسبب الهجمات العسكرية والوضع الإنساني، لكن كان لذلك صداه، فقد أعطتهم المحاكمة الأمل لمواصلة العمل الذي يقومون به للبقاء على قيد الحياة بشكل أساسي. لذا، نعم بالطبع أعطت المزيد من الأمل للمنظمات السورية العاملة في هذه القضية. لقد منحهم هذه الدفعة الإضافية لمواصلة عملهم والتركيز أكثر على المساءلة.
بلقيس جراح (00:10:40):
ما هي آمالك لنهاية المحاكمة؟
ديانا سمعان (00:10:45):
بالنسبة لي، الأمر لا يتعلق فقط بتلك المحاكمة. آمل أن تكرر الدول الأخرى ما حدث في ألمانيا، لتحذو حذوها وتوفر الموارد لوحدات الجريمة في حروبها للتحقيق في هذه الجرائم التي حدثت أو تحدث في سوريا. هذه هي النتيجة الرئيسية بالنسبة لي هي الأمل في أن يتكرر ذلك بالتأكيد بالنسبة للدول الأوروبية التي لديها الإرادة لمساعدة السوريين على تحقيق العدالة، لأن السبل الأخرى كالمحكمة الجنائية الدولية وغيرها، خيارات مسدودة تماما في الوقت الحالي.
بلقيس جراح (00:11:34):
ما رأيك في أن هذه الأنواع من القضايا تمثل ما هو أبعد من التركيز على ذنب الأفراد المعنيين المتورطين في المحاكمات، ماذا تعتقدين أنها تمثل وتعني؟
ديانا سمعان (00:11:50):
أعتقد أن كل الانتهاكات أو الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها الحكومة السورية... وجّهت رسالة واضحة جدا للعالم مفادها أنها قوة يحسب لها حساب. لكن هذه المحكمة اليوم توجه رسالة إلى الحكومة السورية، تقول إنها ستُحاسَب. عاجلا أم آجلا، فالمساءلة ستحدث، هي خيار. ولا يسع المرء إلا أن يأمل في ردع الحكومة عن مواصلة هذه الانتهاكات. لكن المحاكمة بالتأكيد توجه رسالة واضحة للغاية إلى الحكومة السورية مفادها أنه لا سبيل للهروب من العدالة.
بلقيس جراح (00:12:50):
إذن إلى أين ترين سير الأمور في سوريا؟ ما هي أكبر مخاوفك وربما أملُكِ لسوريا من منظور حقوق الإنسان؟
ديانا سمعان (00:13:06):
الآن، الخوف الأكثر إلحاحا هو أن يفقد جزء من سوريا المساعدات الإنسانية. وهو أكثر ما يدور في أذهان الجميع في الوقت الحالي. هناك خطر كبير من حرمان ملايين المدنيين من المساعدات الإنسانية الأساسية، إذا لم يجدد مجلس الأمن في يوليو/تموز قرارا رئيسيا.
بخلاف ذلك، أعتقد أن الشيء الوحيد والأكثر – إذا صح التعبير، لا أعرف – حسرة بالنسبة لي شخصيا، وللعديد من باحثي حقوق الإنسان الآخرين العاملين على سوريا – هو موضوع الاحتجاز، وعدم معالجة آفاق هذه القضية في أي وقت قريب. حقيقة أن المسألة سياسية للغاية، فقد تم تسييسها من قبل جميع أطراف النزاع. حتى عندما نلتقي بالخبراء، يخبروننا أن ملف الاحتجاز – هذه التسمية الآن، ملف الاحتجاز – لن يلمسه أحد أو يتطرق إليه قبل نهاية النزاع، قبل أن تجلس جميع الأطراف... والاتفاق على نوع من إنهاء الوضع في سوريا والنزاع. وبحلول ذلك الوقت، سيكون الأوان قد فات لعشرات آلاف الأشخاص المخفيين في سوريا. لكن مع ذلك، أعتقد أنه طالما أن المساءلة تسير على الطريق الصحيح في الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وأماكن أخرى، فهذا يعطي بعض الآفاق الأكثر إيجابية للمستقبل.
خالد رواس
خالد رواس مهندس ميكانيكي سوري مقيم في ألمانيا. يتحدث إلى هيومن رايتس ووتش عن رحلته من المشاركة في الانتفاضة السورية وما تعنيه له الثورة، إلى لماذا كان يحضر كل جلسة تقريبا من محاكمة كوبلنز؛ وأهميتها في مواجهة تقاعس المجتمع الدولي عن محاسبة الحكومة السورية.
خالد رواس (00:00)
اسمي خالد رواس، وأنا مهندس ميكانيك. أعيش في ألمانيا منذ خمس سنوات. أعمل حاليا في صناعة السفن.
غادرت [سوريا] عام 2013 إلى الأردن ولبنان وتركيا، ثم استقريت في ألمانيا.
سارة الكيالي (00:25)
لماذا غادرت سوريا؟
خالد رواس ( 00:28)
غادرتها لأني اعتُقلت مرتين، وكانت التجربة صعبة جدا لي ولأهلي. فكان الأفضل أني أغادر، لأني كنت من الناجين مرتين، ولكني لا أعرف إن كنت سأنجو إن اعتقلت، أو سأبقى على قيد الحياة، أو أبقى معتقلا مثل كثيرين ما زالوا معتقلين.
اعتقلت أول مرة من مظاهرة في دمشق. المرة الثانية أيضا من مظاهرة، وللأسف بسبب تقارير أمنية ضدية كتبها الشبيحة أو مخبرو النظام السوري. ضغطوا على معتقلين آخرين لمعرفة مع من يعملون. فذُكر اسمي في أكثر من تحقيق، ولهذا السبب اعتقلت.
بصراحة، مثل كثير من الشباب العربي، رأيت ما حدث في مصر وتونس ولبيبا، وكان لدي أمل في التغيير. لأنه منذ ولادتي إلى لحظة خروجي من سوريا، لم أشهد فترة ديمقراطية أو انتخابات. لم أشهد إلا نظاما واحدا، هو نظام الأسد.
للأسف، توقعنا أن يكون الموضوع أسهل، أو شبيه بسيناريوهات دول أخرى.
(02:13)
أول مظاهرة شاركت فيها، ما أزال أذكر حتى الآن أن مشاركتي كانت بسبب الفضول. أردت أن أعرف ماذا يحدث، بعيدا عن الإعلام وما يقال. حينها شاهدت هجوم عناصر المخابرات المرعب على متظاهرين يقولون فقط إنهم يريدون حرية. لم تكن الهتافات حينها "الشعب يريد إسقاط النظام". كانت المطالبات بالعدالة والكرامة والحرية. شاهدت الهجوم الهائل عليهم، مما ولّد عندي نوعا من القرار أن هذا الأمر يجب أن يتغير. طبعا، جميع عائلات دمشق وسوريا يعلمون ما حدث في الثمانينات، وجميع العائلات تأثرت بهذا الأمر.
تجربة الاعتقال، ليست فقط قاسية، وإنما تحمّلك قضية. قضية المعتقلين كبيرة جدا. ما شاهدته خلال اعتقالي ولّد عندي انطباعا بأننا لا يجب أن ننسى المعتقلين. فعلا، هذا الأمر... ليس فقط أفراد من العائلة والأصدقاء، بل آخرين كثر أحبهم، بقوا في السجن، وعشت معهم فترة من الزمن، وأعرف أنهم ربما ما زالوا معتقلين. لذلك، هذا الأمر دفعني دائما إلى التفكير بما يمكن أن نفعله حين نغادر سوريا. كان لدي أمل كبير جدا بأن نخلق ضغطا دوليا عن طريق منظمات حقوقية وإنسانية. ساعدت كثيرا في كتابة تقارير لبعض المنظمات، وحاولت أن أنقل ما يحدث آملا في التغيير إذا كان هناك ضغطا دوليا، أو إذا سُمع صوت المعتقلين، أو إذا عرف الناس ما يجري في السجون السورية. للأسف، حينها أيضا لم أشعر بالجدوى. إذا بحثت اليوم في "غوغل" عما يجري في سوريا، نجد آلاف التقارير التي تتحدث عن الوضع بسوريا، وتحديدا عن وضع المعتقلين بسوريا، ولكن هل ساهم هذا الأمر في الإفراج عن معتقل واحد؟ للأسف لا. لأننا نتعامل هنا مع نظام ديكتاتوري، ليس لديه أي مشكلة في استخدام كل أنواع القوة ضد المتظاهرين، أو الناس الذين يريدون تغيير النظام. في الوقت نفسه، لم يكن النظام يخفي هذا الأمر، أو كان يحاول أن يظهر وجه للعالم وكأنه لا يفعل هذا الأمر، ولكن رغم كل التقارير كان النظام يستمر في هذه الأفعال. لم يتغير أي شيء بالنسبة لظروف المعتقلين أو للإفراج عنهم. هم فقط معتقلون سياسيون، وليس لديهم أي انتماء حزبي أو لأي دولة الخ.
(05:39)
للأسف المنظومة الدولية التي نتعامل معها هي منظومة فاشلة. هي منظومة ديكتاتورية بالأصل. من المستحيل أن أقتنع أنه يوجد ديمقراطية في هذا العالم. الفيتو مثلا هي أكثر أداة قمعية. فقط لأنه دولة واحدة قررت أنها لن توافق بسبب مصالحها، فهي قادرة أن تتحكم بمصير شعب بأكمله. نحن نتعامل مع منظومة فاسدة بالأصل.
كنا بحاجة لتحرك حقيقي تجاه هذا النظام، والانتهاكات التي يرتكبها.
باب المحكمة في ألمانيا، هو باب قانوني يعتمد على الولاية القضائية العالمية، وهو باب مفتوح. حين سمعت بهذا الأمر، شعرت أنه التحرك الهام الذي كان يجب أن نتوجه إليه في البداية. لو اتجهنا إليه سابقا كان من الممكن أن يغير بعض الأمور. بغض النظر عن التوقيت، وجودي كلاجئ بألمانيا... كان مهم جدا بالنسبة لي لأنه يمكنني التقدم بدعوى على جهة خارج ألمانيا بسبب ارتكابها جرائم حرب.
(07:19)
فيما بعد، اصدار مذكرات بحث بحق مجرمي حرب مثل جميل حسن كانت خطوة قوية جدا بالنسبة لي، ويوجد أسماء لم يُعلن عنها. رغم رمزية هذه المذكرات، للأسف لا نستطيع اليوم أن نحضر جميل حسن، ولكنها توجه رسالة واضحة بأن مجرمي الحرب هؤلاء، بعد كل ما فعلوه، لا يمكنهم ببساطة مغادرة سوريا ويمارسوا حياتهم بشكل طبيعي وينفقون المال بشكل طبيعي رغم كل الجرائم التي ارتكبوها.
الخطوة التالية، كانت اعتقال أنور رسلان وأياد الغريب، وإصدار مذكرات بحقهم من قبل المدعي العام الألماني. كانت خطوة قوية جدا، لأن هذا الشخص مارس التعذيب، وكان رئيس فرع تحقيق. كان هذا الرجل جزءا أساسيا من هذه المنظومة الأمنية. كانت خطوة كبيرة جدا لي شخصيا، وخطوة صغيرة بالنسبة لمجرى التحقيق في سوريا عموما. الأهم أن الخطوة الأولى حدثت، ولدينا شيء ملموس اليوم. حضرت 11 جلسة في المحكمة وكنت أعلم أن ما يجري هو حقيقة.
وجود شخص من هذه المنظومة بثقل أنور رسلان في قاعة محكمة ويحاكم.. كانت لحظة دخوله قاعة المحكمة قوية جدا لأنه سابقا أنا كنت في الفرع ويحققون معي بطريقة لا تشبه أبدا طريقة التحقيق مع أنور رسلان. المشاعر كانت مختلطة جدا، وكان لدي بصراحة نوع من الحسد، لأن التعامل معه كان جيدا جدا، ونال كل حقوقه، بينما أنا كنت محروما من كل حقوقي خلال فترة التحقيق معي. هذا الأمر واجب طبعا، ولكن في الوقت نفسه يشعر المرء بالفرق في المعاملة وكل شيء مارسه هذا الشخص في سوريا كرئيس فرع تحقيق، والمعاملة التي يتلقاها هنا في ألمانيا.
سارة الكيالي (10:16)
أيضا، إدراك الفرق في المعاملة، وفرصة وجود نوع من العدالة أو نوع من المحاسبة في ألمانيا يجعل الفرق بين سوريا وألمانيا مهولا، ولكن ما كان شعورك خلال الجلسات العديدة التي حضرتها، هل تمنيت حدوث هذا النوع من المحاكمات في سوريا، وهل أحسست أن حدوث المحاكمة في ألمانيا أكسبها أم أفقدها أمرا ما؟
خالد رواس (11:02)
طبعا، منذ تقديمنا القضية الأولى هنا في ألمانيا، شعرت بغصة وتساءلت لماذا نفعل هذا في ألمانيا. كان لدي أمل كبير أن العدالة تكون في سوريا، والمحاكمات هذه تجري في سوريا، وتكون جزء من محاكمة مجرمين كثر، أجرموا بحق الشعب السوري، ليس فقط منذ 2011، ولكن أيضا منذ 40 سنة. في الوقت ذاته، كان يجب أن نكون واقعيين، لأن هذا الأمر غير ممكن، أو شبه مستحيل في سوريا في ظل المنظومة الحاكمة. لم تكن لدينا خيارات أخرى، وكانت فعل هذا الأمر بألمانيا هو الخطوة الصحيحة.
أتمنى أن يحاكم أنور رسلان أو غيره مرة أخرى في سوريا. حاليا، يوجد شهود ومدعون في ألمانيا، قد يكون عددهم قليل جدا مقارنة بعدد الضحايا الموجودين في سوريا أو في الفروع الأمنية أو من مات منهم تحت التعذيب.
سارة الكيالي (12:20)
حضرتَ 11 جلسة. ما كان أكثر أمر مفاجئا لك، وما أكثر شيء سرّك؟
خالد رواس (12:39)
سأبدأ بأكثر شيء سرني، وهو كلام المدعي العام في الجلسة الأولى، الذي كان منصفا في شرحه خلفية الثورة السورية. بصراحة، أكثر شيء أفرحني وصف ما يحدث بسوريا أنه ثورة، وكان ذلك بالنسبة لي أمرا هاما. قد يكون الأمر ليس مهما بالنسبة لآخرين، ولكن للأسف، منذ 2011، ينظر إلى ما يحدث في سوريا أنه حرب أهلية، وهذا الأمر كان مزعجا دائما لي. ما حدث في سوريا ليس حربا أهلية، بل ثورة ضد نظام فاسد. وصف المدعي العام الألماني ما حدث في سوريا عام 2011 أنه ثورة كان انتصارا بالنسبة لي.
أكثر أمر فاجأني صراحة، وهنا أتحدث برأي الشخصي، كان لامبالاة أنور رسلان. إذ إن المدعي العام سرد التهم لأكثر من ساعتين. أي شخص يوجه إليه أربعة آلاف تهمة تعذيب و58 تهمة قتل تحت التعذيب، المفترض إن كان هذا الشخص طبيعيا أن يشعر بنوع من الذنب أو نوعا من المسؤولية، فهو لم يكن موظفا صغيرا في الفرع، بل كان رئيس فرع التحقيق. ما فاجأني بشدة أو أزعجني كثيرا، لامبالاته وإنكاره جميع التهم التي سردها المدعي العام الألماني. بصراحة لم أتوقع أن ينكر أي شخص هذا الكم من التهم المثبتة برأيي. هذا ما فاجأني في القضية.
سارة الكيالي (14:51)
برأيك، بعد وصولهما إلى كرسي الاتهام، هل تغير شيء بالنسبة لهما؟ أو حتى بالنسبة للآخرين في سوريا الذين يرتكبون نفس الممارسات حتى الآن؟
خالد رواس (15:06)
هناك رسالة قوية جدا موجهة إلى هؤلاء الموجودين في سوريا بأن هذا اليوم سيأتي رغم تأخره كثيرا، ولكنه قادم. يوم محاكمتهم قادم، هذا اليوم الذي أتمنى أن يكون في سوريا. لا يستطيعون الاعتقاد بأن بعد كل ما فعلوه في مقدورهم السفر إلى بلد آخر، إن تغير النظام أو حتى لم يتغير، وأنه يمكنهم ممارسة حياتهم بشكل طبيعي. ما زال هناك معتقلون، وما زال هناك أناس يطالبون بحقهم، يعرفون تماما العدالة التي يريدون. هؤلاء المرتكبون ليسوا في أمان، وهذه الرسالة بالنسبة لي وأتمنى أن تكون واضحة بالنسبة لهم أيضا. كانت معبرة وقوية جدا، إذا لم تكن صوتا فقط بل فعل أيضا.
سارة الكيالي (16:06)
اعتقد أن حضورك 11 جلسة يُظهر أن لديك نوعا من الارتباط بهذه القضايا، أو نوعا من الالتزام، لماذا قررت المواظبة على حضور 11 جلسة؟ أتوقع أن كثيرا من الناس حضروا أول جلسة، ولكن آخر جلسة كان العدد أقل.
خالد رواس (16:32)
بصراحة، أتابع الجلسات بشغف كبير وقوي. في سوريا دخلت المحكمة مرة واحدة، وكانت بعد اعتقالي أول مرة، وهي المرة الوحيدة التي دخلت بها إلى القصر العدلي أو إلى محكمة في سوريا، وكانت فقط لمدة دقيقتين. سألني القاضي سؤالا واحدا، ثم خرجت. هذا كل شيء، ولم يكن هناك رد حتى للأسف. وجودي في المحكمة اليوم في ألمانيا، ومتابعة القضية ومجرياتها، وهيئة الدفاع والمدعين، والمدعي العامي ومحامي الادعاء، أحاديث الشهود، وأحاديث المدعين. العملية بحد ذاتها مثيرة للاهتمام بالنسبة لي، ونتعلم منها كسوريين وكيف يجب التحقيق في هذه الأمور.
لجأت إلى ألمانيا بسبب قمع بشار الأسد، بسبب قمع العصابة الحاكمة والأنظمة الأمنية. بسبب هذا الأمر تحديدا، من الصعب جدا عليّ كلاجئ أن أرى شخصا كان جزءا من هذه المنظومة الإجرامية يُعطى حق اللجوء مثلي، فأنا هربت من أمثاله. أنا لاجئ فقط بسبب أشخاص مثله. لا أستطيع صراحة، أن أوضع أنا وهو في نفس المقام كلاجئين بسبب نفس الأمر.
(18:08)
أيضا، وجود مثل هؤلاء الأشخاص، وللأسف هم كثر في ألمانيا، وأتوا من قبل النظام السوري، هو خطر علينا كسوريين. أنا اليوم لاجئ في ألمانيا، ولكن بنفس الوقت لا أستطيع القول إني أشعر بالأمان تماما، لأن جميعنا يعرف أن الأنظمة الديكتاتورية عموما، وتحديدا نظام الأسد، سواء الأب أو الابن، لديهم تجربة كبيرة جدا مع اللاجئين الذين خرجوا من سوريا، بملاحقتهم وتهديدهم وقتلهم في بعض الأحيان. هذا الأمر حدث منذ الثمانينات، ولجوء الناس بعد مجزرة حماة، وبعد الاعتقالات في دمشق، فتمت ملاحقة الناس في ألمانيا وكل أوروبا، ولم يكونوا بأمان. وأنا اليوم لا أستطيع القول إني أشعر بالأمان تماما بوجود أشخاص مثلهم في هذا المجتمع يمارسون حقهم في اللجوء، ولكنهم قد يكونوا في مهمات استخباراتية، وقد يكونوا يعملون على ملاحقتنا. لا أستطيع القول إني أشعر بالأمان تماما، بسبب هؤلاء الأشخاص.
مثلا، مازن حمادة عاد [إلى سوريا]، ولا نعرف ملابسات الموضوع. لا أحد يعلم ما حدث له. شخص كمثله ذاق تجربة التعذيب المريرة جدا والمؤلمة جدا، من المحال أن يعود بإرادته. أتمنى ألا أسمع عن حالات أخرى. أتمنى أن يؤخذ هذا الأمر بشكل جدي كثيرا، وأولوية كبيرة، لأني لا أريد الشعور بالخطر مرة أخرى، خاصة مع وجودي في دولة أجنبية، أو بلد اللجوء أو المنفى الذي أعيش فيه.
(20:02)
كان الأمر مرعبا جدا. حين سمعت القصة، لم أستطع أن أتخيّل... في فيلم شارك فيه مازن عن حياته، بعد مشاهدتي المرارة التي ظهرت في صوت وحركات ودموع مازن، أشعر أنه من المستحيل أنه عاد بإرادته إلى القاتل. من المؤكد أن هناك ملابسات، للأسف لا نستطيع معرفتها. كيف عاد؟ أتمنى أيضا ألا يظهر في المستقبل في التلفزيون السوري، مثلا كثيرون ظهروا قبله وأجبروا على إنكار كل شيء حدث أو قالوه. هذا أمر متوقع من نظام الأسد.
المطلب الأول للثورة السورية في 2011 كان العدالة والحرية والكرامة. تحقيق هذه المطالب هو أكثر شيء أتمنى تحقيقه. أتمنى بشدة أن المنظومة الأمنية بكاملها، وليس فقط... للأسف، كثيرا ما يتم الحديث اليوم عن بشار الأسد كشخص. مشكلتي ليست فقط مع بشار، ولكن مع المنظومة الأمنية كلها. مشكلتي مع 17 فرعا أمنيا في دمشق، وكل فرع أمني لديه عدد مرعب من السجون.
أتمنى حاليا، وهي أمنيتي الأولى دائما، أن يُفرج عن المعتقلين والمفقودين والمختفين قسريا وأن يروا النور، وأن يصلوا للعدالة بأنفسهم. هناك أشخاص معتقلون منذ 2011، وموجودون حتى اليوم. يجب أن ننقذ من تبقى على الأقل. للأسف، قُتل تحت التعذيب كثير من الأشخاص. أتمنى أن يستطيع من تبقى في السجون الخروج إلى النور، وممارسة حقهم في العدالة، والمطالبة بما خرجوا من أجله في 2011.
(22:15)
في النهاية، أقول دائما إن ما يحدث الآن في سوريا لم يعد علاقة بسوريا فقط، بل هو أمر إنساني بحت. عبارة "أنقذوا المعتقلين" التي نرددها، لم تعد تعني أنقذوا المعتقلين السوريين فقط، بل تعني أنقذوا الإنسانية جميعا بإنقاذ المعتقلين السوريين. المأساة في سوريا مرعبة جدا، وخصوصا قضية المعتقلين والمختفين قسريا. يجب أن يتغير هذا الأمر. اليوم، للأسف لا نتحدث عن قضية انتهت سابقا ونطالب بالعدالة من أجلها، إنما نتحدث عن أمر يحدث الآن خلال هذه الدقيقة وهذه المكالمة. يجب أن يتوقف هذا الأمر. يجب أن يكون هناك خطوات فعلية وحقيقية تجاه هذا الموضوع للإفراج عن المعتقلين.
مختار
مختار (اسم مستعار) سوري يدير مطعما صغيرا في ألمانيا. قال مختار لـ هيومن رايتس ووتش إنه لم يشارك في محاكمة أنور ر.، ولم يكن محتجزا في سوريا. قال إنه غادر بعد أن شهد مذبحة. يتحدث في هذه المقابلة مع هيومن رايتس ووتش عن الثورة السورية وما تعنيه له العدالة في سوريا.
مختار (00:00:00)
أنا سوري الأصل، من الجولان المحتل، ولدت في دمشق. جئت إلى ألمانيا في آخر 2014. الآن، لدي مطعم مع شاب صديقي، مطعم للمأكولات الشرقية.
في العام 2011، بداية كانت الثورة في درعا. كنت مثل بقية الناس، بين مصدّق وغير مصدّق. كنت أصدّق أن فعلا هذه هي حقوق الناس وأنّ ما في الأخبار ليس تمثيلا، وغير مصدّق أن من الممكن أن يفعل إنسان ما هكذا، أن يقتل طفلا أو يفجّر أو يستسهل هذا الأمر. لم أكن أتوقع ذلك. إلى أن [حدث أمر] في المنطقة التي كنت أسكن فيها، كان فيها طوائف عدة، فيها سُنّة وشيعة، وهي منطقة السيدة زينب. رأيت بعيني. كان هناك تشييع لضابط استشهد، وخرج في التشييع حوالي 7 آلاف شخص. هذا الأمر رأيته بنفسي ولم يروِه أحد لي، كيف جاءت الطائرة وقصفت المشيّعين. استشهد 311 شخصا في ذلك اليوم.
كان ذلك في 2012، بعدها حاولت أن أجد حلا. الشيء الوحيد الذي كنت أريد أن أفعله هو المغادرة إلى مكان آخر. أردت أن أحاول فعل أي شيء ينفع الثورة، وفي الوقت النفسه يكون لدي مردود يساعدني على العيش، ليكون لديّ طاقة. بعدها، كلمني أحد أصدقائي، قال لي: "غادر، لا تبقَ، لأن اسمك تعمّم وصار مطلوبا. إذا بقيت ستختفي كما اختفى ابن خالك". وهذا الشخص بالنسبة إليّ هو ثقة. عندها، غادرتُ مباشرة إلى لبنان، ومن إلى لبنان غادرتُ إلى تركيا، ومن بعدها بدأت رحلتي، رحلة لجوئي.
(00:02:27)
كنت بعيدا عن ابن خالي عندما سمعت أنه اختفى. لكن حين بحثت في التفاصيل، كونه يعتبر من الأسرى، [وجدت أن الأمر] كان بسبب خلاف شخصي بينه وبين شخص آخر. هذا الشخص كتب تقريرا ضده واختفى. منذ ذلك الوقت وحتى الآن، أنا متأكد أنه استُشهد في المعتقل. لكن أبيه مثلا، كان على أمل أنه على ما يزال على قيد الحياة أو ممكن أن يأتي خبر عنه. وصلني ذلك التهديد، "سنخفيك مثلما اختفى ابن خالك". الوسائل المعروفة هي القتل بالرصاص أو الشنق أو كذا، لكن ثمة وسائل كثيرة للقتل البطيء. مجتمع فيه نفاق، دولة فيها نفاق، دولة لا تعرف إلا الوساطة. من الممكن أن تختفي في أي لحظة. المسوغ موجود. إذا كنت أعرف أنك موجودة، بإمكاني أن أكتب تقريرا ضدك أنك تورّدين السلاح، أو تورّدين الأدوية، توردين أي شيء. إلى أن يُعرف أنه لا علاقة لكِ بأي شيء، أو إلى أن يأتي دورك في التحقيق، ستكونين قد متِّ نفسيا أو جسديا، أصابتك أمراض كثيرة.
إجراءات اللجوء... بقيتُ سنتين ونيّف إلى أن اعترفوا بوضعي كلاجئ في ألمانيا. طبعا، نفسيا، كنت تحت الصفر. كنت أشعر أنه ليس بمقدوري أن أفعل أي شيء. لا أستطيع أن أدرس اللغة، وممكن أن أعود في أي لحظة. لا أستطيع العمل.
(00:04:15)
بدأت أتعلم اللغة قليلا، أعمل قليلا، أعمل في "المولات"، أهتم بالعربات، أكنس الأرض... أردت أن أساعد أهلي وأساعد نفسي. الدولة تعطيني مبلغا بسيطا بالكاد يكفي. بقيتُ فترة طويلة إلى أن صدرت أوراقي وحصلت على الإقامة، وقتها ارتحت.
- أسّستُ صفحة لتعلّم الألمانية، فيها 50 ألف على الإنترنت، 50 ألف متابع على فيسبوك. أيضا شكّلنا فريقا للترجمة، عددنا نحو 40 شخصا هنا. نساعد أي شخص وصل حديثا، إذا كانت امرأة تريد الذهاب إلى الطبيب، بحكم عاداتنا وتقاليدنا، لا يمكن أن يذهب معها شاب. نحن حوالي 40 شخصا. كان ذلك أول ما وصلنا، كل واحد يتعلم قليلا، ندرب أنفسنا. وصلني شكر من رئيس البلدية والجمعيات هنا. إذا كان لدى الجمعيات الكبيرة شيئا ما يريدون إيصاله إلى السوريين، يرسلونه إليّ وأنا أضعه على الصفحة. الصفحة لديها مصداقية كبيرة هنا.
منذ ثلاث سنوات. منذ ثلاث سنوات فتحنا المطعم.
الشيء الملفت الذي أعجبني هو الزخم الإعلامي. اهتمام الناس الذين لا تخصهم هذه القصة، وبُعد السوريين عن الموضوع. أراهنك أن السوريين الذين يحضرون المحاكمة هم بعدد أصابع اليد، والباقون هم ألمان أو صحفيون. لكن كمجتمع هنا، كمجتمع سوري من الذين اندمجوا قليلا، صدقيني أن كثيرين لا يهمهم ما يحصل، لو مهما حصل. لكن أرى أن هذا الأمر له أهمية كبيرة أمام الرأي العام. الناس الذين هم جزء من النظام، لو سقط نظام بشار الأسد وأرادوا أن يهاجروا، سيعرفون أنهم لن يتمكنوا من الهرب، لو ذهبوا أينما ذهبوا إلى آخر الدنيا، سيمسك بهم أحد ما. أنا سعيد جدا بهذا الأمر.
(00:06:43)
لا توجد عدالة في الكون كله. لو كانت هذه المحاكمات تؤثر على الرأي السياسي لكانوا أغلقوها. هذا رأيي الشخصي. لكنها خطوة ما، نجاح للناس الذين يسعون إلى حرية الناس. خطوة نوعية جدا، لا سيما كونها محكمة تخص بلد معين تقام ببلد آخر، وهي ليست محكمة دولية. هذا الشيء أحببته كثيرا. نحن نشارك التغطية "أول بأوّل"، ننشر ما يحدث على المجموعات. أنا أتابع كل ما يحدث.
غارانس لو كين
غارانس لو كين كاتبة وصحفية فرنسية. إحدى الصحفيين القلائل الذين تمكنوا من مقابلة قيصر، المنشق عن الجيش السوري، الذي هرّب عشرات آلاف الصور التي كشفت ممارسات التعذيب وسوء المعاملة داخل مراكز الاحتجاز التابعة للحكومة السورية. تحدثت إلى هيومن رايتس ووتش عن جهودها في توثيق الانتهاكات، وعلاقتها مع قيصر وأهمية الصور، فضلا عن تجربتها في الإدلاء بشهادتها في محاكمة كوبلنز.
تابعوا غارانس هنا: https://twitter.com/garancelecaisneغارانس لو كين (00:00:00):
اسمي غارانس لو كين. أنا صحفية مستقلة منذ 30 عاما تقريبا. وعلى مدى السنوات العشر الماضية، كرست نفسي بشكل شبه حصري لسوريا منذ بداية الثورة السورية.
(00:00:18) كان قيصر ضمن فريق مصوري الشرطة العسكرية في دمشق الذين عملوا لصالح النظام السوري. قبل الثورة، كان يتم تكليفهم بتصوير الجنود الذين لقوا حتفهم في حوادث، أو في حريق، أو انتحروا، لتزويد نظام القضاء العسكري بصور، ليكون قادرا على أرشفة هذه الوفيات، كما أعتقد أنه يحدث في العديد من الجيوش حول العالم. لكن في بداية الثورة، في مارس/آذار 2011، بعد مرور بعض الوقت، طُلب منهم الذهاب وتصوير جثث المتظاهرين، الذين احتجوا وقتلوا بالرصاص أثناء القمع الحكومي، بمن فيهم أولئك من درعا. وبعد بعض الوقت، طُلب منهم تصوير الجثث التي كانت على ما يبدو لمحتجزين، ومدنيين توفوا في مراكز الاحتجاز الحكومية، ومن الواضح أنهم لم يموتوا لأسباب طبيعية. وسرعان ما أدركوا أن هؤلاء المعتقلين ماتوا من التعذيب أو الجوع أو الأمراض غير المعالجة.
وبعد فترة، عندما أدرك أنه طُلب منهم القيام بذلك، شعر قيصر بالاضطراب بسبب هذا الذي يشبه... أرشيف الموت الفظيع هذا، وتحدث عنه لأقرب أصدقائه، سامي، وهو ناشط في الثورة، أراد قيصر أن ينشقّ، أن يترك هذا النظام الذي من الواضح أنه يعتبره إجراميا. لكنه وسامي تحدثا عن ذلك وقررا أنه يجب ألا ينشقّ، بل أن يبقى في وظيفته ويحاول نسخ هذه الصور وتسليمها لسامي.
(00:02:07) لأنه يجب أن تدركي أن منظومة السجون السورية هي جوهر النظام. التعذيب، وممارسة الإخفاء القسري هما إلى حد ما حمضه النووي وتكوينه. هذه هي الطريقة التي يستمر بها النظام. يستمر عبر المخابرات والمعتقلات، من خلال الرعب الذي ينشره بهذه الاعتقالات والاختفاءات القسرية. وإيجاد قيصر كان في الحقيقة لمحاولة جعله يتحدث عن ذلك، وأعتقد أن قيصر وسامي يجسدان السوريين. إنهما بطَلان وفي نفس الوقت ليسا بطلين أكثر من ملايين السوريين الآخرين. صحيح أن وجود اسم قيصر يعني أنه تحول إلى شيء غير عادي. فما فعلاه غير عادي. من الواضح أن ما فعله قيصر، بنسخ كل تلك الصور، يوما بعد يوم، يظهر شجاعة كبيرة. لقد احتفظ بها سامي أيضا في المنزل طوال ذلك الوقت، خلال العامين اللذين نسخ فيهما قيصر الصور، كان سامي يحتفظ بها في المنزل على قرص صلب.... كل هذا يظهر قوة كبيرة.
(00:03:25) لكن مثل كل شيء، ومثل العديد والعديد من السوريين والمدنيين، هناك خوف يخيّم على المجتمع السوري، منذ عهد الأب، حافظ الأسد، منذ السبعينيات. هذا الخوف يعني أنه من الصعب للغاية الانشقاق عندما تكونين جزءا من النظام. أيضا، عدم الثقة بالآخرين، هذا شيء تحدثت عنه عندما تكلمت مع سامي وقيصر، لكنني تناولته أيضا مع العديد من السوريين. هذا الافتقار إلى الثقة الذي يكاد يكون الآن جزءا من الحمض النووي للعديد من السوريين، والذي زُرع من قبل حافظ الأسد والآن بشار الأسد. زرعا انعدام الثقة هذا في المجتمع السوري، ومع العديد من السوريين، عليكِ إنشاء علاقة قائمة على الثقة.
هذه أشياء من الصعب جدا علينا نحن الغربيين تخيلها. إنه حقا شيء كبير، هذا الخوف، لا نستطيع، لا أعتقد أننا سنكون قادرين على فهمه كليا. من المستحيل، عندما تكبرين في ظل نظام ديمقراطي... أحيانا يكون من الصعب جدا فهم المواقف أو ردود الفعل التي تبدو لنا غير مفهومة. لكن في الحقيقة، ليست كل هذه المواقف غير مفهومة. يمكن فهمها إذا كنتِ سورية وتربيتِ في عهد حافظ الأسد أو تحت قيادة بشار الأسد. إنها مفهومة تماما. لكن الأمر متروك لنا نحن الغربيين لمحاولة الفهم، وهذا يستغرق وقتا، ولا أعتقد أننا قادرون على ذلك بشكل كامل. أعتقد أن علينا أن ندرك عيوبنا وصعوباتنا.
(00:05:12) لذلك، عندما كُشفت الصور للعالم في يناير/كانون الثاني 2014، كان قيصر وسامي قد غادرا سوريا قبل عدة أشهر، ويفكران – أريد أن أقول بسذاجة، ولكن بسذاجة بمعنى إيجابي. أعني أنهم يفكران بطريقة إنسانية، بطريقة بسيطة، فقد اعتقدا أن هذه الصور ستوقف الحرب. كانا مقتنعين أنه بمجرد أن يرى العالم بأسره هذه الصور، سيفهم العالم مسؤولية النظام والجرائم التي ارتكبها. واعتقدا أنها ستوقف الحرب، بكل بساطة، وستوقف المذابح. هذه الصور لا تصدَّق بمعنى أنك لا تستطيعين تصديقها. لأنها مروعة. ليست فقط مروعة لأنك ترين جثثا. بل بسبب عدد الجثث، ووضعية الجثث، كل هذا يعني أنك لا تستطيعين تصديقها. والصور ملونة. قد يبدو الأمر مفاجئا، لكن رؤية صور كهذه لجثث مرقّمة يجعلك تفكرين على الفور في المحرقة، في الهولوكوست.
(00:06:27) هنا، لدينا صور من عصرنا هذا، صور حالية، وكنا نعلم أنه بينما كانت الصور تعرض كان الشيء نفسه ما يزال مستمرا. في نفس اللحظة التي نتحدث فيها، الجرائم مستمرة. التعذيب مستمر. هناك لحظة لا يمكنك فيها استيعاب الأمر في عقلك. إنها طريقة تشرح جزئيا لماذا يرفض المجتمع الدولي والسياسيين رؤية ما يحدث. فماذا تغير منذ عرض هذه الملفات؟ الحقيقة لم يتغير أي شيء. أو أنها أظهرت الصور مدى عدم رغبة سياسيينا في معالجة المسألة السورية، وعدم رغبتهم في معالجة الجرائم، وإحراجهم من موقف روسيا، ولاحقا من دعم إيران للنظام السوري. طبعا تحدث الناس عن الملفات. بالطبع كانت هذه القضية في غاية الأهمية، وأصبحت ملفات قيصر الآن في صميم الأدلة على الجرائم التي ارتكبها النظام. من بين أمور أخرى، هي أيضا في قلب المحاكمات القضائية، لا سيما في ألمانيا. سنتحدث عن ذلك لاحقا. لكن على المستوى الدبلوماسي، لا أعتقد أنها قد غيّرت شيئا. لا، لا أعتقد أنها غيرت أي شيء.
كيف يمكنني أن أصف الأمر؛ عندما تعذب الأنظمة الديكتاتورية شخصا ما، فإنها لا تترك آثارا على الجلد. بل إن أثرها أعمق من ذلك بكثير. فهي تحاول تدمير الذاكرة، وتحاول تدمير نقل تلك الذكرى، وتحاول تدمير أرواح الناس. وهكذا، تحاول إسكات الناس. وفكرة تأليف ذلك الكتاب، كانت الفكرة في الحقيقة هي كتابة روايات السوريين. أن تُكتب في مكان ما. ولم أكن أعرف ما الذي سيحدث لذلك الكتاب. لم أكن أعرف ماذا سأفعل بعد ذلك، لم أكن أعرف. لكن كان هذا هو الهدف الأساسي، الاستماع، محاولة فهم أكبر قدر ممكن مما حدث، ثم كتابته.
(00:08:35) تركب الأنظمة الديكتاتورية موجة الخوف، وركب بشار الأسد موجة خوف الغربيين. ما هي مخاوف الغربيين؟ الإرهاب. وما هو الإرهاب بالنسبة لنا؟ هو رجال ذوو لحى. هو المسلمون. هو نساء محجبات. هو الإسلام في الحقيقة. ونحن، على الأقل في فرنسا، لدينا علاقة معقدة للغاية مع الإسلام. ولسنوات عديدة، صوّر الأسد نفسه على أنه المدافع عن العلمانية والحضارة. كان يقول باستمرار، "إما أنا وإما الفوضى". لكنه هو الذي جلب الفوضى. هو الذي خلق الفوضى. وفي 2014، عندما بدأت العمل على هذا الكتاب، كان الناس يتحدثون فقط عن داعش (تنظيم الدولة الإسلامية). بالطبع، داعش منظمة إرهابية. بالطبع، في 2015، كانت هناك أيضا هجمات في فرنسا، وما إلى ذلك. لكن يجب ألا ننسى من هو المجرم الرئيسي في سوريا: إنها الحكومة. لذلك، كانت ملفات قيصر أيضا تتمتع بهذه القوة، لتكون قادرة على مواجهة الإنكار والمعلومات المضللة والقدرة على مواجهة دعاية النظام.
(00:09:47) هذه المحاكمة مهمة للغاية، أولا وقبل كل شيء لأنها المحاكمة الأولى. والشروع في هذه العملية القضائية هو أيضا وسيلة للاعتراف بالجرائم. طريقة لتحديد الجاني والضحية. وهذا أمر مهم للغاية لمساعدة الضحايا على إعادة البناء. لأنك يجب أن تفكري بسوريا الغد، عليك أن تفكري في الأطفال الذين تربينهم. كل هؤلاء اللاجئين في أوروبا. كيف يمكنهم نقل ذاكرة بلادهم إلى أولادهم؟ كيف سيكبر الأطفال؟ هذا أمر مهم. ومن المهم أيضا عندما ترين، هذا خارج الموضوع، لكن عندما ترين كيف تتم معاملة هؤلاء اللاجئين في أوروبا، هؤلاء اللاجئون هم أنا وأنت، إنهم أناس مثلنا، ليسوا أناس فقراء قدموا لطلب اللجوء. إنهم أناس شجعان، أناس لديهم قصة مجنونة. إنهم أناس... لأنك تحتاجين إلى شجاعة لا تصدق لتصبحي لاجئة. أنت بحاجة إلى شجاعة لا تصدق لمغادرة بلدك، حتى لو تم تدمير بلدك. الأمر ليس بسيطا. أنت بحاجة إلى شجاعة لا تصدق للذهاب إلى بلد لا تتحدثين لغته، بلد عليك أن تبدأي فيه من الصفر. عندما تبلغين من العمر 40 أو 50 عاما، كيف تتعلمين لغة أجنبية؟ إنها مسألة كبيرة... وأعتقد أن هذه المحاكمة يمكن أن تساعدنا أيضا نحن الغربيين على فهم أفضل لوضع السوريين ومن هم وماذا يحدث في بلدهم، لنفهم بشكل أفضل كيف يعيشون اليوم وكيف يمكننا الترحيب بهم اليوم.
(00:11:24) سوريا أظهرت لنا الفوضى في العالم. سوريا، ورفض مساعدة السوريين، ورفض الاعتراف بالمجرمين الحقيقيين، كل هذا سينهار علينا. لا يمكننا تجاهله. لا يمكننا أن نرفض أن نرى. لا نستطيع... فالأمر متروك لنا للتفكير. والأمر متروك لنا معا... فالمسألة ليست مجرد "نحن" و"هم". هي "نحن"، نحن معا. هذا أيضا ما يمكن أن تحققه محاكمة كوبلنز، مع أنه لم يحدث تماما بعد... أعتقد أن محاكمة كوبلنز لم تحظَ بتغطية إعلامية كافية، وربما ستصدر حكم أنور رسلان في أكتوبر/تشرين الأول أو نوفمبر/تشرين الثاني لكن... هذه المحاكمة تحكي قصة عالمنا وليس فقط حكاية العالم في سوريا. هذا هو المهم. ولا أعتقد أننا قدّرنا ذلك حتى الآن.
(00:12:22) ما كان مثيرا للاهتمام بالنسبة لي كصحفية، بالنسبة لعملي، هو أنني أعتقد أنني أصبحت أكثر وعيا بأهمية الشهادة في قاعة المحكمة، وأهمية هذه المحاكمة، حتى على المستوى الرمزي، حتى وإن كانت الأحكام كبيرة أو غير كبيرة، فهم ليسوا من كبار المجرمين. إنهما ليسا... ليسا الرقم 3 أو الرقم 2 أو رقم 1 للنظام. ليس بشار الأسد هو من يحاكَم. ليس جميل حسن أو علي مملوك، لا. لكن هناك شيء قوي للغاية. وهو الذهاب هناك وعيش تلك التجربة بنفسي... أجد ذلك مثيرا للاهتمام حتى بالنسبة لعملي، أن أرى أهمية العدالة. وأيضا على المستوى الشخصي، أقول لنفسي إنني لم أقم بهذا العمل عبثا... لأنني قضيت سنوات أشكّ، أتساءل عن الغرض الذي يخدمه، والغرض مما فعلته. لكنني أعتقد أن هذا هو الحال بالنسبة لنا جميعا، عندما نعمل على هذا النوع من المواضيع ونرى عدم اكتراث المجتمع الدولي، وشلل المجتمع الدولي، عندما نرى استمرار الجرائم، نتساءل عن الغرض الذي نخدمه. وأعتقد... أنني شعرت أنني حاملة الرسالة، وفي لحظة معينة، نقلت ما كان لدي، وما احتفظت به وفهمته عن النزاع السوري، ما مكّنني سامي وقيصر من فهمه، تمكنت من نقله إلى من حولي جزئيا. وصحيح أنه مثير للاهتمام، ومحفز، ... إنه يساعد على تقليل شكوكك ويساعد في إعطائك بعض القوة للمضي قدما.
(00:14:25) يمكن للمجتمع الدولي... أن يفعل كل شيء ولا يمكنه فعل أي شيء. الأمر معقد قليلا. يجب أن يكون قادرا على المساعدة في تعويض الضحايا. يمكن أن يساعد من خلال رفض الحوار مع المجرمين، من خلال رفض الحوار مع بشار الأسد. يمكن أن يساعد من خلال أخذ ضرب يده على الطاولة فيما يتعلق بفلاديمير بوتين الذي يدعم بشار الأسد. لكن من الواضح أن الأمر معقد للغاية لأن المجتمع الدولي يتكوّن من دول، ومن مفاوضات وحوار بين هذه الدول. هنا تكمن المشكلة. على المجتمع الدولي الضغط من أجل العدالة الدولية، والضغط من أجل إنشاء محكمة جنائية دولية، والضغط من أجل تنظر "المحكمة الجنائية الدولية" في القضية، وهو أمر مستحيل حاليا لأن سوريا لم توقع على "معاهدة روما" التي أنشأت المحكمة [الجنائية] الدولية. لذلك في الوقت الحالي، أعتقد أن المجتمع الدولي ما يزال مشلولا، لكنني آمل أن يكون دوره الرئيسي في الوقت الحالي هو التعرف على هذه الجرائم، والاعتراف بشهادة الضحايا، والاعتراف بالضحايا، ومن ثم التمكن من تقديم الدعم بمجرد حدوث تغيير سياسي في سوريا، تقديم الدعم للسوريين في إقامة العدل في بلدهم.
(00:16:02) من الصعب تخيل ما يمكن أن تكون عليه سوريا بعد عشر سنوات أو حتى أن يكون لديك أي أمل. عشر سنوات بعيدة، ولكن عشر سنوات هي أيضا غدا. سبق أن مرّت عشر سنوات على الثورة ولم يكن أحد يتخيل أن السوريين سيكونون في هذا الوضع بعد عشر سنوات. من ناحية أخرى، ما أتخيله، ربما بدون حد العشر سنوات هذا، هو إعادة بناء الإنسان. أتخيل ازدهارا. أتخيل نقاشات لا تنتهي بين الآباء والأمهات وأولادهم. أتخيل نوعا من الغليان لإعادة بناء سوريا. في الوقت نفسه، لست متأكدة من أن كلمة "إعادة بناء" هي المصطلح المناسب. لكني أتخيل شيئا محفزا للغاية، على المستوى الفكري والإنساني، لأولئك الذين يريدون بناء سوريا جديدة، لأولئك الذين يريدون تدمير هذا الخوف، ذلك الإرهاب الذي زُرِع في الشعب السوري منذ سنوات. سيستغرق الأمر وقتا طويلا، لكن هذا ما أتخيله، نعم. هذا أملي. لدي هذا الأمل للسوريين. آمل أن يمروا يوما ما بفترة البناء المحفزة هذه. وأتخيل أيضا أن أطفال اللاجئين الذين وصلوا إلى أوروبا، والذين نشأوا في أوروبا، والذين تلقوا تعليمهم في أوروبا، سيكونون قادرين على وضع مهاراتهم الجديدة، ومؤهلاتهم... لاستخدامها في بلدهم، سوريا، لبناء سوريا الجديدة هذه. هذا ما أتخيله من جيل إلى جيل. هذا ما أتمناه للسوريين.
أنور البني
أنور البني محامٍ سوري وأحد الفاعلين الرئيسيين في محاكمة كوبلنز. يتحدث إلى هيومن رايتس ووتش عن تجربته مع أنور ر.، المتهم الرئيسي في محاكمة كوبلنز، وكيف التقيا عندما قُبض عليه قبل عقود في سوريا، وكيف رآه مرة أخرى في ألمانيا كلاجئ. كما يصف كيف بُنيَت قضية كوبلنز وكيف تتواءم مع جهود المجتمع السوري لبناء سوريا أفضل وأكثر عدلا.
تابعوا أنور هنا: https://twitter.com/anwaralbounni
أنور البني (00:00:00):
أنا أنور البني. محامٍ منذ العام 1986 في سوريا، ولدت في حماه العام 1959، وتربيت في عائلة نوعا ما سياسية تعرض أفرادها للاعتقال مطولا وبفترات طويلة جدّا، تتجاوز الـ 20 عاما ببعض الأحيان لأحدهم. طبعا العائلة كلها عانت من الاعتقال إلى حوالي الـ 70 إلى 73 سنة مجملا، وأنا اخترت أن أكون محاميا لكي أدافع عن المعتقلين السياسيين وأدافع عن مبادئ حقوق الإنسان. كان خياري أن أصبح محاميا من أجل هذا المبدأ.
إخوتي كانوا في السجن لفترات طويلة معتقلين تعسفا، وعدد من أصدقائي أيضا ليس إخوتي فقط، نتيجة مواقفهم السياسية، طبعا السلمية، كانوا ينتمون إلى أحزاب يسارية سلمية ليست أحزاب عنفية لكن السلطة لا تسمح بأي صوت معارض بأي طريقة كانت فتم اعتقالهم لفترات طويلة. لذلك قررت أنه يجب أن أصبح محاميا لأنه الطريق الوحيد لأستطيع أن أمارس شيئا يخدم المعتقلين الموجودين. وكوني محاميا يعني أنه توجد أدوات قانونية يمكن من خلالها أن أكون مؤثرا نوعا ما في هذا الموضوع، فهذا كان خياري...
(00:01:55)
وبدأنا بالدفاع عن المعتقلين حقيقة بشكل عملي بين الـ 1994-1995 حين بدأوا يحيلون الموقوفين عرفيا إلى محكمة أمن الدولة العليا. ويوجهون إليهم تهما. أصبح هناك مجال حينها أن يكون للمحامين دور شكلي. لكن لديهم وجود وليس لهم دور. هذا الوجود أعطانا الإمكانية أن نصل إلى الملفات وأعطانا الإمكانية أيضا في التسعينات أن نصل إلى منظمات حقوق الإنسان مثل "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" ونوصّل إليهم الصورة عما يحصل في سوريا حول المعتقلين. وهي كانت البداية، عملي العام المعلن التواصل مع المنظمات الدولية، مع هيومن رايتس ووتش عن طريق لبنان ومع منظمة العفو الدولية.
(00:03:02)
كان شعوري أني فخور بما أفعل، أن هذا ليس عملا بالنسبة إليّ، بالنسبة إليّ هو حياة، والكثير من الناس يسألوني حتى الآن، قائلين عملك ممتاز، فأقول لهم، هذا ليس عمل أبدا، بالنسبة إليّ أنا أمارس حياتي، وهذه هي حياتي. التحديات كانت كبيرة، طبعا تحديات الاعتقال والتهديد، وحتى تهديد العائلة أيضا، كان ذلك موجود دائما. لكن التحدي الأصعب بالواقع كان بالنسبة إليّ مع بعض المحاميين الآخرين الذين كانوا أيضا لديهم خلفيات سياسية ويرغبون في المشاركة بالدفاع عن المعتقلين. فكان التحدي الأكبر بالنسبة إليّ أن أقنعهم أن أساس المحاكمة باطل وهذا ما يجب التركيز عليه. بينما هم كان من الممكن أن يركّزوا على أن التهم باطلة والمتهمين أبرياء. فهذا النقاش هو التحدي الأكبر الذي كنت أواجهه مع باقي المحامين الذين تنطّحوا في تلك الفترة، مشكورين، مهمن كان يتنطّح في تلك الفترة للدفاع عن المعتقلين السياسيين، طبعا. لكن كان ذلك تحدٍ بالنسبة لي أن المسألة لا تتعلق بأن نناقش إن كان هذا المتهم ارتكب تلك الجريمة أو لا لم يرتكبها، بريء أو لا، مدان نسبيا كثيرا أو قليلا، أو نتناقش في مسألة أن المحكمة استثنائية والمحاكمة باطلة، وهؤلاء فقط لأن عندهم رأي لا يجوز أن يوجه إليهم أي اتهام.
(00:04:57)
أنا حتى حين كنت في السجن وكان يأتي زميلاي خليل معتوق ورزان – هما مغيبان كل واحد منهما في جهة – كنت أقول: "لا تركزوا على وضعي بالسجن، أنني مريض، استمروا بالتركيز على القضية الأكبر وهي إطلاق سراح المعتقلين جميعا لأنهم موجودون لأسباب غير قانونية. ابقوا بالصورة الأكبر لا تنحدروا إلى المطالبات الصغيرة". كان هذا مهم جدا بالنسبة إلي... وهذا هدف كل الأنظمة الديكتاتورية، أن تنقلك لمطالبات أدنى بأدنى حتى الوصول إلى "نرجوكم، أبقوهم على قيد الحياة".
سارة الكيالي (00:05:44):
أريد أن اسألك أستاذي، متى كانت أول مرة اعتقلتك الحكومة السورية؟
أنور البني (00:05:51):
أوّل اعتقال بحقي كان في 1978، بالواقع لم أكن أنا الهدف. كنت أنا وأختي نسكن في دمشق ثم أتوا لاعتقال أختي سحر، كنا نستأجر غرفة. لم تكن تعرف أنها ملاحقة، واعتقلوني أنا حينها لسبعة أيام أعتقد أو ستة، وكان بالفرع 251 بفرع الخطيب. بعدها اعتقلوني يومين حين أتوا واعتقلوا أخي يوسف في 1986 أو 1985، ثم اعتقلوني نحو ثلاثة أيام أو يومين في 1998، عفوا في 1988، وبعدها خمسة سنوات في 2006.
سارة الكيالي (00:07:05):
وخرجت في 2011؟ كيف خرجت؟
أنور البني (00:07:12):
انتهت مدة محكوميتي، حكموني خمسة سنوات وانتهت محكوميتي.
سارة الكيالي (00:07:21):
أستاذي، كنت تقول لي أنهم اعتقلوك حوالي أربع أو خمس مرات، آخرها كانت في 2006، وخرجت في 2011. هل كانت الأحداث بدأت حين خرجت؟
أنور البني (00:07:40):
نعم طبعاً، كانت الثورة قد بدأت. خرجت في الشهر الخامس 2011 وكانت الثورة قد بدأت طبعا.
سارة الكيالي (00:07:49):
وكيف كان شعورك أنك خرجت والثورة كانت قد بدأت؟
أنور البني (00:07:55):
أنا أتابع الثورة منذ بدايتها ومن قبل. لأنني كنت بسجن عدرا وهذا السجن سجن مدني وكنت أتابع كل ما يحصل. كان الشعور أنها هذه اللحظة التي كنا نعمل لأجلها، التي كنا نعيش من أجلها بالأحرى. وكلنا عملنا من أجلها، وبالتالي كان الإحساس كما قلت لك، هي اللحظة التي كنت أتوقعها منذ 2005، وقلت لوسائل الاعلام أن هذا الشعب سينتفض، وليس من الممكن أن تبقى الأمور هكذا، وكنا نتوقع في 2005 بعد ثورة لبنان. للأسف وقتها قُمعت أو احبطت بحرب تموز (يوليو). هذا ما أحبط التحرك حين كانت الثورة، أو جنين الثورة السورية. هي الحرب المجنونة الذي قام بها نصر الله في 2006. وبالتالي كنت سعيدا ومتحمسا جدا حتى وأنا في السجن. قد أكون أنا أول شخص أصدر بيان تأييد للمظاهرات السلمية الجارية في سوريا. رغم أنه كان يمكن أن يمددوا سجني، أن يوجهوا إلي تهمة ثانية، لكن لم أكترث أنني قد أبقي في السجن أو أخرج بقدر ما كان يهمني أن تستمر هذه الثورة الشعبية.
سارة الكيالي (00:09:36):
هل أول رأيته [أنور رسلان] كانت في ألمانيا؟ هل من الممكن أن تصف لنا أوّل مرة حين رأيته في ألمانيا؟
أنور البني (00:09:45):
كنا في مخيم حينها، أعطوني شقة أنا والعائلة. فكانت بعد فترة شهر أو شهرين أو ثلاثة خرجت من المخيم، كنت خارجا من البيت أريد أن أحضر حاجيات أنا وزوجتي. ورأيت شخصا هو وزوجته وكنت أقول لزوجتي: "هذا الشخص أعرفه لكن لا أتذكر من هو". نظرتُ إليه وتجاهلني ونظرت ودققت وحاولت أن أتذكر من هذا الشخص، لكن لم أستطع أن أتذكر. تجاهلته ومشيت. وبعد عدة أيام قال أحد أصدقائي قال لي، "هل تعرف أن أنور رسلان في ألمانيا ببرلين وبنفس المخيم الذي أنت فيه؟" وقتها تذكرت تماما وربطت الشخص مع الاسم، أن أنو رسلان هو الذي رأيناه. وبعدها رأيته مرتين بالواقع في الطريق بمحل بيع أدوات منزلية.
سارة الكيالي (00:10:40):
كيف كان شعورك أنك رأيت هذا الشخص الذي اعتقلك من الشارع بألمانيا؟
أنور البني (00:10:49):
من ناحيتي لا يوجد شيء شخصي ضده، وبالنسبة إلي خصمي ليس شخصا محددا هنا أو هناك. خصمي في نظام ممنهج آليته القانونية تعطيه المساحة ليقتل ويعذب ويعتقل بدون محاسبة. ولم تكن المسألة بالنسبة إليّ شخصية. أن هذا الشخص اعتقلني أو لم يعتقلني، أو ضربني أو لم يضربني، بقدر ما كان بهمني ما كان النظام بأكمله يفعل. وكان يهمني محاكمته. وكان يهمني أن أركّز حينها، لم أعرف ما كانت الفرص.
سارة الكيالي (00:11:35):
هل تفاجئت بوجود أنور رسلان في ألمانيا؟
أنور البني (00:11:40):
لم تكن مفاجأة، لم تكن شيئا يسعدني. أنا أعرف أنه انشق في 2012. لم أتابع خطواته أين ذهب وإلى أين أتى وكذا. لكن كان هناك فقط تساؤل طرحته: كيف تأتون بشخص مثله إلى ألمانيا؟ لأنه تم التوصية به من قبل جهات معارضة ليأتي إلى هنا، لم يأتِ عبر القوارب أو تهريب.
أنا، كما قلت لك، وصلت في 2014. أستغرقني بعض الوقت لكي نجد شقة و[الاهتمام بـ] العائلة وأسست المركز وسجلته تماماً بألمانيا وبدأت أتواصل مع المنظمات التي أعرفها بأوروبا وألمانيا ومنهم "المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان" [المركز الأوروبي] كنت أساسا أتواصل معهم بالإيميل قبل أن أُعتقل. وجمعية القضاة الألمان الذين منحوني جائزتهم في 2009 أيضا تواصلت معهم وحكينا. في 2016 بالواقع كانت توجد ورشة عمل مع مفوضية اللاجئين وكنا نتباحث عن الإمكانيات المتاحة ووقتها اكتشفت أن هناك إمكانية في ألمانيا لأن ثمة صلاحية عالمية لدى ألمانيا ولديهم وحدة خاصة بالجرائم الدولية. المركز الأوروبي في تلك الفترة من 2011 كان دوره أنه لدى وصول السوريين الضحايا، يتم التواصل وإحالتهم إلى المدعي العام ليعطوا شهادتهم للمدعي العام. والمدعي العام كان يسمع الشهادات ويجمعها. يجمع شهادات. فنحن حين أتينا وأجرينا لقاءات مع المركز، كان اقتراحي، لماذا نرسل الشهود إلى المدعي العام، لماذا لا نبني قضية ونضع المدعي العام أمام قضية كاملة، فلا نترك المسألة لمجرد أن يجمع الوثائق التي تصله، بل نحن نبني قضية.
(00:14:20)
البعض لديهم إحساس أن النظام انتصر وانتهت المسألة، تشعرين بحالة يأس أو إحباط من مسألة العدالة. طبعا هذه النتائج التي نراها هي لمحاربة الإحباط عند السوريين لأن هذا الإحباط يمكن أن يؤدي إلى أن الناس يتولد لديها حالة تطرف، إما لجوء للعنف أو لجوء للانتقام الشخصي، أو احتقانات ضد الآخرين، وبالتالي حالة العجز والاحباط تؤدي بشكل سيئ لدى السوريين إلى ردود فعل تجاه بعضهم بعض الأحيان واتجاه الاخرين بالعنف أحيانا، وتشكل أرضية للأفكار المتطرفة والتنظيمات المتطرفة لتستطيع أن تستغل هذه الحالة من الإحباط والعجز، وبالتالي هذا تحدٍ كبير ومهم أن تعودي إلى الإحساس أنه يوجد أمل أن يحدث أمر ما، وأكيد أنا سعيد أن هناك عودة لحالة الإيمان عند السوريين أنه توجد جدوى من هذا العمل.
سارة الكيالي (00:15:12):
أظن أيضا السؤال بالنسبة إلي هي فكرتك عن العدالة لم تتغير، لكن حتى أنا شخصيا حين أنظر إلى القضايا التي تجري في ألمانيا وفرنسا وأفكر بسوريا أو ببلدان أخرى بالوطن العربي، هل تتساءل إذا كنا سنصل في حياتنا إلى نقطة نرى فيها هذا النوع من المحاكمات في سوريا أو البلدان العربية؟< class="speaker"p>أنور البني :(00:15:41)
أنا لا أتساءل. أنا متأكد.
سارة كيّالي (00:15:47):E
حقا؟
أنور البني (00:15:47):
نعم طبعاً، سنراها... المسألة والمشكلة ليست فقط من جهتنا، أو بالأحرى رغبتنا أو إرادتنا لا تكفي. أكيد يجب أن تفهمي هذه الرؤية أو هذا الهدف كيف يجب أن يتحقق ومن سيشارك. لا يمكن أي بلد في العالم أو أي إمكانية لتحقق أي شيء لوحده دون النظر إلى المسائل المحيطة، من هي القوى التي يجب التحالف معها من أجل تحقيق الهدف، من هي القوى التي تريد أن تساعدها والقوى اللي تقف بوجهها. وكيف تستطيع أن تأخد المسار الأقرب والأسهل والأقل كلفة إذا كان هناك إمكانية أقل كلفة لتحقيق هذا الهدف. وبالتالي بداية الألفية كلها كان موضوع حقوق الإنسان أخذ صدى أكبر. أصبح له انتشار أوسع على صعيد العالم وعلى صعيد الدول وهذا وإن كان تأثروا لكن أدى إلى تراكم اتجاه قضايا حقوق الانسان تراكم الوعي والمعرفة هو الذي أوصلنا لتغيير كبير. كم دستور صار بعد الـ 2000 في العالم مثلاً؟ في العالم، أنا أتكلم عن المنطقة العربية، دستور العراق، ودستور تونس، أو غيره. معظمهم أو كلهم أجبروا على وضع حقوق الإنسان بأولويات الدساتير واحترامها بغض النظر عن التطبيق أو عدمه، لكن هذه المسألة أصبحت أولوية، بعدها صارت موضوع نشطاء وجمعيات حقوق الإنسان كان لها دور أكبر برسم سياسة العالم والحكومات وصار لها دور أكبر أكيد.
إعادة تشكيل العالم على أساس جديد هو ضرورة الآن بعد ما يشهده العالم، بعد المصائب التي نواجهها والسياسيون لا يجدون حلولا غير ببعض الأحيان إما يتقوقعون أو يجدون حلولا تخدم سياستهم وبقاءهم بالسلطة.
أنور البني (00:18:24):
كتبت في 2011 أن الثورة ستغير العالم. وفعلا، التغيرات السياسية والجيوسياسية في العالم هي من تأثيرات الثورة السورية.
سارة الكيّالي (00:18:38):
برأيك أستاذ، هل محاولة تحقيق العدالة في الدول الاوروبية ستكون بداية لتغيير الواقع في سوريا وتداعيات الثورة من هذا المنطلق؟
أنور البني (00:18:55):
طبعا، هذا أساسا هو الهدف الأساسي هي أول مرة بالتاريخ العدالة تبدأ قبل الحل السياسي. سابقا كانت تأتي الحلول السياسية أو العسكرية، إن كان الحل عسكريا، المنتصر يطبق عدالته، كما حدث في العراق والحرب العالمية الثانية ومناطق أخرى. أو حلول سياسية تخفي العدالة، إما تخفيها نهائيا كما حدث في لبنان بمنح عفو عام أو تحجّمها، أو مثل كولومبيا، المجرمون تم منحهم جائزة نوبل للسلام، أو تحجّمها مثل الأرجنتين، تحجّم على مستويات معينة أو إجراءات معينة، أو كما في المغرب، تعالوا تكلموا عما عانيتموه وانتهت القصة. بالتالي تكون... إما انتقائية أو انتقامية، أما حتى الآن للأسف لم تحدث تجربة عدالة انتقالية بكل العالم وغالبا كانت تأتي هذه التجارب بعد انتهاء الأزمة، يأتي حل سياسي يلغي أو يكون منتصرا. الآن الحل الذي يأتي هو الذي يحدد آلية العدالة وكيفيتها وحلولها، الآن ولأول مرة العدالة بدأت قبل أن يكون هناك حلول أو قبل انتهاء الأزمة، وبالتالي العدالة الآن ستضع حدودا لمن يمكن أن ينخرط بالحل أو لا يمكن أن ينخرط بالحل، وهو أساس عملنا الآن، أن نمنع المجرمين من أن يكونوا جزءا من أي حل سياسي أو أن يشاركوا بأي مستقبل لسوريا وهذا الشيء عمليا الذي حدث حتى الآن وبالتالي هو مؤثر جداً على بالواقع لأن أي مجرم صادر بحقه مذكرة توقيف أو متهم أمام المحاكم الاوروبية لا يمكن لأي انسان بالعالم بأن يسمح بأن... أو يتعامل معه أو يعيد تأهيله أو أن يسمح أو يوافق بأن يبقى في سوريا جزء من المرحلة الانتقالية أو بالمرحلة اللاحقة وبالتالي هذا هدف أساسي في عملنا، أن نقطع الطريق على أي محاولة من هذا النوع بإعادة تأهيل المجرمين أو التعامل معهم أو السماح لهم بالبقاء.
أنور البني (00:21:23):
نريد تحقيق العدالة في سوريا، الآن في ألمانيا وفي أوروبا لا نريد مسألة العدالة الانتقالية أن تكون في يد أوروبا. نحن نحاول هنا في أوروبا، نوجه رسالة أولية للمجرمين والضحايا وللعالم أن هؤلاء المجرمين يجب أن يتحاسبوا وللضحايا أنه يوجد أمل أن نستطيع أن نصل إلى المستقبل، نستطيع أن نصل إلى العدالة...
يجب أن تكون [العدالة] في سوريا وأمام السوريين وبأيدي السوريين حتى تعطي نتائجها المباشرة لرغبة السوريين وإرادتهم بإعادة الانخراط في مجتمع يحترم حقوقهم، أن يبنوا وطنهم وهم مؤمنون بوطنهم أنه إذا ذهب سيكون لهم مستقبل.
سارة الكيالي (00:22:19):
انشالله. وآخر سؤال أستاذي، هل تفكر في العودة إلى سوريا؟
أنور البني (00:22:27):
أفكر في العودة؟ سوف أعود. لا أفكر في العودة ولا هذا حلم بالنسبة إلي، هذا واقع قريبا انشاء الله... نحن لا ننتظر ليسقط النظام، هو سقط حقيقةً، وأنا أنتظر حتى يتحسن الوضع لنعود... واجبنا نعود، نعود لنبني ونكون جزءا من حالة البناء، وإلا لن تنبني سوريا مثل ما يتمناها السوريين. أنا بأي مكان ووقت بسوريا، حين أشعر بالأمان على حياتي وحريتي سأكون مستعدا للعودة البارحة وليس غدا.
جيمس رودهيفر
جيمس رودهيفر هو المنسق السابق في "لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا" ويعمل الآن على ميانمار. وثّق جيمس وفريقه انتهاكات حقوق الإنسان وخرق قوانين الحرب من خلال مقابلة عدد لا يحصى من الشهود في سوريا. هذه المقابلة، يتحدث عن لجنة التحقيق في سوريا والمحاكمات التي تتناول فظائع في أوروبا والضحايا الذين يلهمونه لمواصلة القيام بعمله.
بلقيس جراح :(00:00:00)
السؤال الأول، هل يمكنك تقديم نفسك وإخبارنا عن عملك حاليا؟
جيمس رودهيفر (00:00:07):
بالتأكيد، اسمي جيمس رودهيفر وأنا رئيس فريق ميانمار التابع لمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ومركزه في بانكوك. يعمل فريقي عن بعد، ويركز على وضع حقوق الإنسان في ميانمار. لا يمكننا دخول البلاد، لذا علينا استخدام منهجيات الرصد عن بعد وما إلى ذلك للقيام بعملنا.
بلقيس جراح (00:00:33):
حسنا، يبدو عملك مشابها لما كان عليه في سوريا ودورك سابقا. هل يمكنك إخبارنا عن سابق عملك، أي قبل منصبك هذا مع مفوضية حقوق الإنسان؟
جيمس رودهيفر (00:00:47):
نعم، كنت منسق لجنة التحقيق المعنية بسوريا من 2014 حتى بداية 2020.
بلقيس جراح (00:01:07):
بداية، هل يمكنك إخبارنا أكثر عن كيفية إنشاء لجنة التحقيق وما هي الأحداث التي أدت إلى ذلك القرار؟
جيمس رودهيفر (00:01:23):
بالتأكيد، إذا لم تخنّي ذاكرتي! لجنة التحقيق ليست ما بدأتُ العمل به. كما تعلمين، بدأ العمل بها في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 بعد صدور قرار مجلس حقوق الإنسان [التابع للأمم المتحدة] في أواخر أغسطس/آب 2011. فقد أصدرت الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان في الأساس قرارا دعا إلى إنشاء لجنة تحقيق تقدم تقريرا خلال ستة أشهر.
كُلِّفت بالتحقيق في جميع انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في سياق الأزمة أو النزاع المسلح في سوريا، والتحقق من هذه الانتهاكات وتوثيقها، وحيثما أمكن تحديد الجناة حتى تتمكن من دعم إجراءات المساءلة. ومع مرور الوقت، أصبحت تلك اللجنة الآلية الأطول مدة من نوعها في تقصي الحقائق في تاريخ الأمم المتحدة.
بلقيس جراح (00:02:46):
هل كانت هناك لحظات مميزة بالنسبة إليك خلال وجودك في اللجنة؟
جيمس رودهيفر (00:02:52):
لسوء الحظ، تبحث اللجنة أساسا في الطريقة التي تقدَّم بها النزاع وكل انتهاك خطير وكارثي تلو الآخر، وكانت كل واحدة من تلك النتائج الحاسمة أو الحالات الرمزية التي كان علينا الإبلاغ عنها، وزنها وجاذبيتها التي تراكمت لاحقا ككرة ثلج تلقي بوزنها على ضميرك وروحك. سواء الطريقة التي سقطت بها حلب أو الحالات المختلفة التي استُخدمت فيها الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين. كانت هناك الكثير من اللحظات التي توضَّح لنا فيها مدى جنون هذا العالم وغياب ثقل وقابلية تطبيق المعايير الدولية. ومحاولة إعطاء معنى لهذه المعايير وجعلها حقيقية ونفخ الحياة فيها والتأكد من أنها تعكس وجود الأشخاص لحما ودما، وهم الذين يحتاجون أن تكون هذه المعايير فاعلة. يبدو في النهاية أن الشعور أصبح ملموسا بشكل أقل وهو أمر يصعب جدا التعامل معه فكريا وعاطفيا.
بلقيس جراح (00:04:28):
عندما ترى تجربة، كالتي تجري في كوبلنز، أيمنحك ذلك أي أمل؟
جيمس رودهيفر (00:04:35):
لا تمنحني الأمل بالضرورة لأنها كما نعلم حالة واحدة من عشرات الآلاف، إن لم يكن أكثر. لكن ما تفعله هو أنها تمنحكِ إحساسا معينا بالرضا. تدركين أن تحقيق العدالة درب طويل جدا، ولكن في بعض الحالات، سيشهد البعض نهايته، أو بداية نهايته على الأقل. لذا، أنا ممتن فقط لأن الناس ما زالوا يتّبعون طريق المساءلة. إنه أمر بالغ الأهمية ويجب أن يستمر. وهذا ما يمنحكِ إحساسا بالرضا.
بلقيس جراح (00:05:24):
ما هي أصداء المحاكمات بين السوريين برأيك؟ هل لديك تصور عن ذلك؟
جيمس رودهيفر (00:05:30):
ليس لديّ تصور عنه. أتخيل أن لديهم الشعور نفسه من بعض النواحي. أنا متأكد أن المحاكمات لم تجلب الطمأنينة للكثيرين، لكنني متأكد أنها أعطت على الأقل بصيص الرضا للبعض. وإذا شجع ذلك الناس على الاستمرار في سرد قصصهم ومشاركة تجاربهم – خاصة مع المدعين العامين الذين يرغبون في الاستمرار في هذه القضايا – فمن المؤكد أنه سبب للأمل.
حتى لو وجَب تكرار رواية نفس التجربة عشرات آلاف المرات.
بلقيس جراح (00:06:09):
وهل تتوقع المزيد من هذه القضايا؟
جيمس رودهيفر (00:06:16):
أعتقد ذلك. أعتقد ذلك. أعتقد أن هذه الأزمات المتفرّقة في العالم تتبع النموذج السوري، أي أنّ سوريا للأسف قد ثبّتت شكل الساحة السياسية الدولية الآن، أن الإفلات من العقاب يسود وبات القاعدة في العديد من الحالات في العالم الآن. وهكذا فإن الولاية القضائية العالمية هي واحدة من الطرق الوحيدة التي تبعث الأمل في المضي قدما. لذا، آمل أن يستمر النظر في النموذج السوري واستخدامه لإحراز تقدم في مجالات أخرى، على الأقل لجعل الأمر أكثر صعوبة على الأفراد [الذين يرتكبون الانتهاكات]، حتى لو ساد الإفلات من العقاب داخل البلد حيث تحدث الانتهاكات والجرائم. سيتعين على هؤلاء الناس التفكير مليّا قبل مغادرة تلك البلاد.
بلقيس جراح (00:07:29):
وحقيقة أن هذه المحاسبة الجنائية وربما غيرها تحدث بعيدا جدا عن مكان ارتكاب الجرائم. ما تأثير ذلك، إن وُجِد، على مسار العدالة برأيك؟
جيمس رودهيفر (00:07:52):
يجب بناء الطريق إلى دمشق. أعتقد أن هذا أول حجر في رصف طريق العدالة الطويل هذا. أعتقد أن ذلك يُظهِر فقط أن العدالة تعكس واقع عدد هائل من الشعب السوري. فالعدالة، كالشعب، هي خارج البلاد. هناك قسم هائل من الشعب خارج البلاد. لكن لكي يؤدي طريق العدالة إلى البلاد، ولكي يرى الناس العدالة في سوريا، سيستغرق الأمر وضعا وظرفا معيّنين- وتغييرا في الظروف لا يمكننا توقعه الآن، لكن علينا الاستمرار في البناء للمستقبل.
بلقيس جراح (00:08:52):
أريد أن أختتم بسؤالك يا جيمس، لقد ذكرت عملك في لجنة التحقيق، لقد استنزفك العمل حقا، والآن تعمل على وضع آخر صعب للغاية كذلك. ما الذي يدفعك إلى الاستمرار، ما الذي يبقيك متحمسا لمواصلة هذا النوع من العمل؟
جيمس رودهيفر (00:09:17):
الضحايا. قلتِ ذلك سابقا بأفضل تعبير، أن الأمل يُستمَد من الضحايا. أستمِدّ المواساة من الضحايا، في كل مرة تكون فيها الضحية على استعداد لمشاركة قصتها ومنحنا الثقة، إما لي أو لفريقي، لمشاركة بياناتهم ومعلوماتهم وقصتهم وحقيقتهم، في محاولة لضمان حفظ هذه المعلومات للمستقبل وإمكانية الاستفادة منها. هذه حقا المساهمة الوحيدة التي أشعر أنني أستطيع تقديمها. ذكرتُ المنهجية السابقة. المنهجية تشعرني بالراحة أيضا. لأنه في النهاية، نتبع تلك المنهجية ونحاول التأكد من أن هذه المعلومات يتم جمعها وحفظها بطريقة مناسبة ولا يمكن تسريبها، ويمكنها تجاوز التدقيق لضمان تحقق العدالة في النهاية، فلا تُرفض أي من قصصهم على أنها كاذبة أو مزيفة. وأن هناك سجلا يمكن استخدامه من قبل المدعين العامين في المستقبل، كلما تغير الوضع الراهن. وأن هناك طريقا يؤدي إما إلى دمشق أو إلى يانغون أو نايبيداو أو أينما يلزم تحقيق العدالة. وهكذا، إذا كان بإمكاني لعب أي دور في هذه العملية، حتى لو كان مجرد شيء بسيط للغاية مثل إثبات الحقائق الأساسية التي يمكن للخبراء استخدامها للمضي قدما، فهذا يدفعني إلى الحماس. هذا يعطيني هدفا. ويذكّرني أن هناك فضيلة في العمل على حقوق الإنسان وعلى هذه المعايير. على هؤلاء الضحايا أن يعملوا على محاولة تسهيل طريقهم نحو العدالة، حتى لو كانت في المستقبل البعيد. ولكن عندما يحصلون على فرصة للخروج، كلما وجدوا ممرا ولو كان بعيدا أو محطة تساعدهم في كوبلنز أو أي مكان آخر وكنا قد ساهمنا في مساعدة ذلك بأي شكل من الأشكال، أشعر أن ذلك يدفعني إلى الاستمرار.
عامر مطر
عامر مطر صحفي ومخرج سوري. كان عامر أحد الشهود في محاكمة كوبلنز. يتحدث إلى هيومن رايتس ووتش عن تجربته في الإدلاء بشهادته، وما إذا كانت العدالة قد تحققت بالفعل بالنسبة له. كما يخبر هيومن رايتس ووتش عن تجربته في توثيق انتهاكات تنظيم "الدولة الإسلامية" ("داعش")، بما في ذلك اختطاف شقيقه على يد التنظيم، ولماذا فشلت جهود السلطات في التعرف على المفقودين.
تابعوا عامر هنا: https://twitter.com/amermatarrعامر مطر (00:00)
أنا اسمي عامر مطر، صحفي وأنتج أفلام وثائقية. أقيم حاليا في برلين. أنا في ألمانيا منذ عام 2012.
أحد الأيام كنت أتصفح الفيسبوك، فرأيت منشورا لأنور البني يقول إن أنور رسلان سيُحاكم، وأن رسلان في السجن. فصُدمت، لأنني أعرف أن أنور رسلان... لم أعرف أو لم أتخيل أنه غادر سوريا.
في البداية، في الأيام الأولى، قبل المحكمة، عندما كنت أقدم شهادتي، كنت أتصور أن الأمر مستبعدا، وأنه لن يحدث. لكن عندما رأيت الصور الأولى لأنور رسلان وهو موجود داخل المحكمة، شعرت أن نوعا من العدالة قد يتحقق. شعرت أني محظوظ، باعتباري واحد من مئات آلاف السوريين الذين تم تعذيبهم، أن الصدفة قادتني إلى لقاء سجاني، ولكن في قفص المحكمة. هذا الأمر كان صعبا جدا، خاصة في ظل الظروف في سوريا، حيث لم يسقط النظام، ولم يتحقق أي نوع من عدالة في سوريا.
(02:07)
في الوقت ذاته، إنه أمر مؤلم أن يتحقق هذا الشيء في المنفى البعيد جدا عن بلادنا وما حدث فيها. أحسست فعلا أني في عالم آخر فجأة.
كان لدي علاقة سلبية جدا مع الشرطة في ألمانيا. تستوقفني الشرطة كثيرا في الأماكن العامة، لأن لون بشرتي مختلف، وأحيانا في المطارات بسبب لحيتي.
عندما طلبوا مني الشهادة لدى الشرطة كان عندي قلق كبير، لأني لا أحب الشرطة. لم أرد أن أخبرهم بقصة حساسة من هذا النوع. في الوقت ذاته، يجب أن أشعر بالأمان لدى الشرطة بينما لدي وجهة نظر حادة جدا تجاه الشرطة.
كل هذه التناقضات الغريبة تدفع الشخص...
هذا الأمر أدى إلى نشوء حق شخصي لي. إن انشق هذا الشخص عن النظام أم لا، هذا قراره، ولكن في نهاية المطاف، الذنوب التي ارتكبها... لا يستطيع المرء أن يقتلك، ثم يغير موقعه في المعركة ويصبح صديقك، أو صديق أهلك.
هذا الأمر، بالنسبة للحسابات السياسية... هذا الأمر بعيد عن حسابات حقوق الناس وبكرامة الناس وبالعدالة.
(03:52)
لم يعتذر أنور رسلان للضحايا ولا للشعب السوري عن الجرائم التي ارتكبها. هو غادر سوريا فقط بسبب تعرض حياة عائلته للتهديد على ما يبدو، ومن حقه أن يفعل أي شيء ليحافظ على حياة عائلته، وحمايتهم من الخطر، ولكن هذا لا يعني أن ذنوبه غُسلت بهذه الطريقة.
بالنسبة لي، هو مجاز (تجسيد) للسجان الذي كان يضربني، هو مجاز لكل المجرمين الذين دمروا حياتنا في سوريا، ودفعونا لترك هذا البلد إلى منافي كثيرة وبعيدة ومختلفة، وغيروا حياتنا كليا.
بمعزل عن الأذى الشخصي بيني وبينه، أنور رسلان هو مجاز لكل هذه المنظومة الأمنية التي دمرتنا.
بالنسبة لي، هو هذا المجاز السافل، الذي يشعرني بالغضب والحقد والكره.
(05:18)
لكن اليوم، بعد كل ما حدث، أشعر أن من حقي أن أحاسبه، وأواجهه في المحكمة، وأقول له: "أنت مجرم.. أنت فعلت كذا وكذا".
لكن طالما أن الأحلام لن تحقق ولن يتغير الوضع في سوريا، ولن يحدث مسامحة كاملة، أشعر أنه بالتأكيد من حقي محاسبته ومن حقي سجنه.
لكن من المؤكد أني لا أريد أن أعرّضه، أو أن يعرضه أحد آخر... ولا أقبل أن يتعرض أي من المجرمين الذين ضربوني وعذبوني وارتكبوا بحقي أشنع الأمور لما ارتكبوه بحقي.
أنا أريدهم أن يُحاكموا بطريقة تصون كرامتهم وكرامة أهلهم، وأريدهم أن يُسجنوا بطريقة كريمة، وأن يُعاقبوا بطريقة تحترمهم وتحترم إنسانيتهم وتحترم البشر الذين في داخلهم.
(06:32)
عندما بدأت الثورة في تونس، جن جنوني، قلت لنفسي إننا نستطيع فعل ما فعلوه. كانوا يغنون في الشوارع: إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر.
هذا الأمر فعلا جعلني أجن. أقمنا اعتصاما أمام السفارة التونسية وكنا مجموعة صغيرة من الشباب والبنات، ثم أقمنا اعتصامين أمام السفارة المصرية، ثم اعتصامات أمام السفارة الليبية. بعد ذلك، بدأنا بالتظاهر في مجموعات صغيرة في مناطق متفرقة من دمشق.
فيما بعد، بدأ الناس جميعهم يخرجون للتظاهر في 15 مارس/آذار في مناطق مختلفة في سوريا.
سارة الكيالي (07:24)
أريد أن أغير الموضوع قليلا. الانتهاكات التي ارتكبتها الحكومة السورية، ليست الوحيدة التي تهمك كناشط سوري. أول مرة تواصلنا، تحدثنا بخصوص المختطفين من قبل داعش. لذلك أريد أن أسألك قليلا عن عملك على هذه القضية. كيف بدأت عملك فيها، وما المستجدات في عملك وعمل [مجموعة] "جواب"، وأين وصلتم في هذه القضية؟
عامر مطر (08:07)
عندما كنت في ألمانيا عام 2012، كنت أسافر كثيرا إلى الرقة بعد خروجها عن سيطرة نظام الأسد عام 2013. بدأت داعش في منتصف 2013 بخطف عدد من أصدقائنا، فشرعنا بالخروج في اعتصامات في الرقة للمطالبة بالمختطفين.
بعد بضعة أشهر، اختطفوا أخي محمد نور، وهو أصغر مني بسبع سنوات. بعد أن خطفوا أخي محمد نور، خرجنا في اعصتام كبير جدا، فأفرجوا عنه بعد بضعة أيام.
بعد شهر أو أكثر، اختطفوه مرة ثانية.
فيما بعد، بدأت مع فريق التصوير الذي يعمل معي دخول المناطق التي تخرج منها داعش ونصوّر السجون. بعد فترة اكتشفت أن هذه السجون بدأت تتلاشى. فإما تحولت إلى سجون تستخدمها الأطراف العسكرية الجديدة في المنطقة، أو هُدمت. أصبح الناس يعودون إلى تلك المناطق ويعيدون السجون إلى ما كانت عليه من مدارس أو مشافي. نتيجة لذلك، خسرنا وثائق هامة جدا، لأن يوجد على كل جدار من تلك الجدران وثيقة هامة جدا.
كل هذه الأطراف تتحمل المسؤولية، وللأسف لم يكن لدى أي من هذه الأطراف أي رغبة في العمل الجاد لطمأنة عائلات المختطفين أو تزويدهم بأي معلومة.
إذا أردت السؤال عن أخي، أين يجب أن أسأل عنه؟ كيف أستطيع أن أسأل عنه؟ ألا تحترمون أنفسكم؟ أنتم الذين تعملون كفريق الاستجابة الأولية وغيره. كيف يمكنني التواصل معكم؟ ذهبتُ معهم إلى الرقة وإلى عدد كبير من المقابر الجماعية ورأيتها وعاينتها. تشعرين أن عليكي أن تحتالي على الفريق لكي تحصلي على معلومة.
سارة الكيالي (10:53)
أريد أن أسألك، هل الحكومة السورية وداعش سواء بالنسبة لك؟
عامر مطر (11:05)
في نهاية المطاف، الجهتان قتلونا ودمرونا. لدينا منزلان في الرقة. النظام والروس دمروا أحد المنزلين وقُتلت ابنة عمي فيه، وداعش سيطروا على المنزل الآخر ودمروه فيما بعد ودمره التحالف الدولي. بالنهاية، ليس فقط داعش والنظام السوري هم الأشرار الوحيدين الذين أذونا. يوجد جهات عديدة شريرة ولكن بطرق مختلفة.
حتى الجهات التي أتت مدعية أنها تريد تخلصينا، اكتشفها أنهم سفلة، قتلوا الناس، ودمروا البيوت. حتى اليوم، لا يكترثون بأرواح آلاف الناس الذين اختفوا وقُتلوا.
سارة الكيالي (12:16)
في هذه الظروف، حين يكون الجميع أشرارا، [وتعرض السوريون للانتهاكات] على يد كثير من هؤلاء الأشخاص والجهات، ما أهمية المحكمة، هل ستؤدي إلى تغيير؟
عامر مطر (12:38)
سأتحدث على مستويين. بالنسبة لي شخصيا، كانت حدثا هاما جدا لي. لأنها جعلتني فعلا أشعر أن العدالة ممكنة في العالم، حتى لو كانت في مكان آخر، ووقت آخر، ومحدودة، ولكن هذا يعني أنه العدالة ممكنة، وهذا هو الأمر هام جدا على المستوى الشخصي بالنسبة لي.
ثانيا، بالنسبة للمستوى العام، أشعر أن هذه المحكمة هامة جدا، لأن جميع المجرمين الذين ارتكبوا هذه الجرائم يشعرون أن من الممكن محاكمتهم يوما ما. حتى لو ذهبوا إلى ألمانيا، ومهما ابتعدوا، يمكن أن يُحاكموا... ضمن ظروف مختلفة جدا. هكذا أرى المحكمة.
محمود موسى
محمود موسى لاجئ فر من منزله في محافظة إدلب السورية إلى تركيا عام 2011 وساعد العديد من وسائل الإعلام وكذلك باحثي هيومن رايتس ووتش. ساعد موسى، وهو مدير سابق ومدرس للّغة الإنغليزية، في تهريب الأشخاص بأمان عبر نقاط العبور المتغيرة باستمرار على الحدود السورية-التركية، وغالبا ما اعتمد على عملاء، بعضهم من طلابه السابقين. في هذه المقابلة، يتحدث موسى عن الاحتجاجات في سوريا، وعمله مع الصحفيين وأكثر ما يفتقده في سوريا.
محمود موسى (00:00:00):
أنا محمود موسى من إدلب في سوريا. كنت مدير مدرسة قبل الثورة في بلدتي بِداما وقبل ذلك كنت مدرسا للغة الإنغليزية. بدأت التظاهر ضد النظام منذ البداية في بلدتي وفي المنطقة. ثم أصبحت مطلوبا من النظام، ثم هاجم الجيش منطقتي في يونيو/حزيران 2011. فهربت مع عائلتي إلى الحدود لبضعة أيام. ثم أصبح جيش النظام قريبا جدا من الحدود. فهربت في 21 يونيو/حزيران 2011، وعشت في مخيمات حتى منتصف 2018 عندما أوقف الأتراك المخيم أو أغلقوه. ما زلت أعيش مع عائلتي في تركيا، لكن عملي في سوريا. بدأت العمل مع "هيومن رايتس ووتش" ومنذ البداية مع بيتر بوكيرت في يونيو/حزيران 2011، عندما كان في منطقتي، عبَر الحدود ووثّقنا شيئا عن... الإدارات والمعتقلين وانتهاكات النظام الحقوقية حينها، ثم واصلت العمل مع زملاء آخرين في هيومن رايتس ووتش حتى هذه الأيام.
رأينا كباقي السوريين ما حدث في تونس، ومصر وغيرها، لكننا بالطبع لم نمتلك الشجاعة لنفعلها حتى بدأوا في درعا، وعندما رأينا ما حدث في درعا واللاذقية، كيف تعامل النظام مع المتظاهرين، قررنا التظاهر في منطقتي. بدأنا بعد شهر من درعا، في أبريل/نيسان 2011، وأصبحت مطلوبا من النظام منذ البداية، لأنني كنت مدير مدرسة. وتظاهر معظم طلابي، بالإضافة إلى زملائي، حينها. لذلك، أصبحت مطلوبا من المخابرات السياسية، فذهبت، لكنهم لم يفعلوا شيئا، فقط سألوني بعض الأسئلة. ثم أطلقوا سراحي. مكثنا على هذا النحو لشهر تقريبا نتظاهر حتى هاجم النظام المنطقة في يونيو/حزيران.
(00:02:48) حينئذ، كنت الوحيد الذي يتحدث الإنغليزية، وتمكن بعض الصحفيين من عبور الحدود حينها، مثل "سي إن إن" وغيرها من المحطات. وكنت الوحيد الذي تحدث معهم وماذا، كان هذا أحد الأسباب التي دفعتني للهروب إلى تركيا، لأنني إذا عدت، سيعني ذلك موتي. وثّقت سي إن إن مثلا هذه اللحظات أو تلك اللحظات عندما عبرت مع عائلتي. وتحدثت معهم بالتفصيل عما حدث. نمنا تحت الأشجار لأسبوعين تقريبا مع العائلة. كان ذلك في أواخر الربيع. كان هناك بعض المطر في منطقتي حينها. فنمنا تحت الأشجار مع العائلة. وكان لدينا بعض الطعام، وأرسل الأتراك أحيانا بعض الطعام للناس تحت الأشجار، لكن عندما لم يعد هناك خيار آخر، باستثناء العودة إلى ذلك النظام، أقصد إلى السجن، أو البقاء تحت الأشجار، قررت بالطبع الذهاب إلى تركيا، أن أكون مع عائلتي.
(00:03:57) كان هناك بعض المهربين، كانوا، لا أعرف إذا كان بإمكانك تسميتهم بالمهربين. أنا أعرفهم جيدا. أثق بهم لأنهم ساعدوا اللاجئين على الهروب حينها. كانت مهمتهم مساعدة اللاجئين على الفرار من سوريا إلى تركيا، لأنه كما تعلمين، كان النظام يراقب الحدود وحاول منع الناس من الفرار، الفرار إلى تركيا. وكان هؤلاء المهربون، إذا جاز لنا القول، يعرفون أسلم الطرق أو نقاط العبور المؤدية إلى تركيا. لذا، اعتمدت عليهم لمساعدتنا على العبور... إلى سوريا ثم العودة. كانت وظيفتي حينها: التنسيق مع المهربين، والتأكد من أن الطريق آمن، وكل شيء على ما يرام، ثم عليّ ترتيب مقابلات مع أشخاص بالداخل. كنت أتواصل مع بعض الأشخاص بالداخل لاستقبالنا وإجراء مقابلات معهم. وبالطبع، وظيفتي الأساسية هي الترجمة، لذا ترجمت للصحفيين.
(00:05:03) بدأوا العمل كمهربين، ومساعدة الناس للعبور عندما غادروا المدرسة. عبرنا هذه الطرق التي يعرفها المهربون. ثم نذهب إلى الجانب الآخر، مثلا، إلى الجبال الكردية. ونبقى هناك لبضعة أيام. ثم نصوّر أشخاصا، من "الجيش السوري الحر"، وهم يقصفون. نعم. كان الأمر شديد الخطورة لأن المنطقة كانت محدودة للغاية، ويمكن للنظام مهاجمتها في أي وقت. كنا أحيانا نقطع الرحلة ونعود لأنهم أخبرونا أن النظام يعرف عنا، وعلينا المغادرة. كان الأمر صعبا للغاية ومحفوفا بالمخاطر، حقا. واجه الصحفيون أحيانا مشاكل مثل أن يسقطوا، أو يصابوا، ليس بسبب القصف، ولكن بسبب الرحلة نفسها.
(00:06:04) كان التظاهر أصعب شيء فعلته. أذكر في تلك اللحظة، عندما تظاهرت لأول مرة ضد النظام، كنت أصفر اللون. نظرت إلى يديّ، كانتا صفراوين. لم أستطع رؤية وجهي. جاء أخي وطلب مني مغادرة المظاهرة. لم أعرف لماذا تظاهرت. شيء بداخلي دفعني للخروج والتظاهر. كان هذا أصعب شيء في حياتي، لأنني عرفت أنها البداية وأنه الموت. عندما تخطين الخطوة الأولى، ما من شيء صعب بعدها. نعم. ربما تكونين خائفة، لكنك تقولين، حسنا، ليست مشكلة، عليك الاستمرار. كان لدي شيء لأفعله. تمردنا على النظام، وكان علينا مواصلة هذه الثورة ضد النظام، ولن يتوقفوا أبدا ربما حتى الموت، أو سننتصر.
(00:07:05) ينبغي للعالم أن يعرف ما حدث وما كان يحدث في سوريا. في الثمانينيات، لم يعلم أحد بجرائم النظام، لم ير أحد جرائم النظام، الآن، كل لحظة مسجلة داخل سوريا، ويمكن للجميع في العالم معرفة ما يحدث هنا. قبل أسبوع، قال لي ألكس كروفورد من "سكاي نيوز" إن إدلب معروفة مرة أخرى. حصلوا على جائزة عندما كنا في إدلب العام الماضي، داخل إدلب. وثّقنا الكثير داخل إدلب. لذلك، سيدرك العالم ما يحدث داخل سوريا. مثلا، في 2016، تمكنت من الحصول على 20 ألف ملف لعناصر داعش من الرقة. وأعدّ ستيوارت رامزي تقريرا.
بلقيس جراح (00:08:10):
ماذا تود رؤية المجتمع الدولي يفعل؟
محمود موسى (00:08:13):
هذا سؤال صعب جدا. لأنهم لا يعرفون ما يمكنهم فعله. أعتقد أن أهم شيء هو وقف جميع أنواع... الانتهاكات الحقوقية داخل سوريا، وفي منطقة النظام، وفي المنطقة الحرة وفي كل مكان في سوريا. ليس سهلا إيقاف هذا إلا إذا أُوقف المسؤولين عنه. ينبغي إيجاد حل لبشار الأسد. من المستحيل أن تستمر سوريا ما لم يبتعد عن كرسيه ويُسجن - بأمر المحكمة. لذا فإن أهم شيء هو محاكمة الأسد ونظامه على الجرائم التي ارتكبها في سوريا.
بلقيس جراح (00:09:21):
ما هو أكثر ما تفتقده في سوريا؟
محمود موسى (00:09:25):
(بدأ يدمع) كل شيء. بيتي، ومدرستي، ومزرعتي، وذكرياتي مع عائلتي، وأصدقائي، وأهلي. المسجد. رمضان بالداخل. الإفطار. كل شيء. (يتنهد) آسف - تعرفين - كنت في سوريا الشهر الماضي. أذهب الى سوريا. أقضي وقتا لطيفا مع أصدقائي، لكن عائلتي هنا. عندما قررت الذهاب مع عائلتي في العيد الماضي، نهاية شهر رمضان، قصف النظام المنزل. المنزل الصغير الذي بنيته بجانب الحدود. قصفوا على بعد 20 متر من ذلك المنزل. لذا، أعتقد أن عائلتي، زوجتي، وأولادي مترددون في العودة مرة أخرى. تعمل زوجتي مع منظمة طبية. أنا أعمل مع سكاي نيوز، وأحيانا مع هيومن رايتس ووتش، وأحيانا مع بعض الصحفيين. نعمل الآن على قصة مهمة جدا عن فتاة صغيرة من إدلب، تعرضت للحرق في خيمة. نحن قادرون على مساعدتها ووالدها ليكونا معا. غادرا المستشفى الاثنين الماضي. كنت معهما. ذهبت إليهما وصورنا، مع سكاي نيوز. صورناهما في شقتهما. تعرضت، بالطبع، الفتاة الصغيرة للحرق. فقدت شعرها، وذاب أنفها، وفمها، وذابت أذناها وذابت شفتاها، وساعدها الأتراك. أجروا لها الكثير من العمليات الجراحية. ما تزال على قيد الحياة، إنها معجزة، كما قال طبيبها. سنواصل معها، ونساعدها، ونوثّق الخطوات التي تمر بها. ساعدها أشخاص بريطانيون، تبرعوا لها بحوالي... أكثر من 60 ألف جنيه إسترليني. لا أعرف إذا رأيتِ التقارير عنها. نعم. بالتالي، تعطيكِ قصص كهذه انطباعا آخر، ونوعا آخر من الحياة.
كلاوس كريس
كلاوس كريس أستاذ القانون الدولي والقانون الجنائي ومدير "معهد السلم والأمن الدوليين" في جامعة كولونيا. هو عضو في الوفود الألمانية في المفاوضات لدى "المحكمة الجنائية الدولية" منذ عام 1998. يتحدث البروفيسور كريس إلى هيومن رايتس ووتش حول مبدأ الولاية القضائية العالمية وأهمية توثيق المحاكمات التاريخية، مثل المحاكمة في مدينة كوبلنز الألمانية المتعلقة بالتعذيب على يد الدولة السورية.
تابعوا عمل كلاوس هنا: https://iipsl.jura.uni-koeln.de/en/بلقيس جراح (00:00:00):
يمكننا البدء بسؤال بسيط جدا ومباشر يا كلاوس، وهو، هل يمكنك أن تعرفنا عن نفسك وما تقوم به؟
كلاوس كريس (00:00:14):
بالتأكيد. أدرّس القانون الجنائي والقانون الدولي العام هنا في جامعة كولونيا، حيث أدير أيضا "معهد قانون السلم والأمن الدولي".
بلقيس جراح:
أردت أيضا سؤالك. أعرف أنك على دراية بالمسائل المتعلقة بتمكّن الأفراد غير الناطقين بالألمانية من الاطلاع على مجريات المحاكمة التي تتم بالكامل باللغة الألمانية. تتوفر الترجمة الفورية فقط لأطراف القضية من متهمين أو ضحايا، وبعض الصحفيين المعتمدين، لكن لا توجد نسخ أو تسجيلات باستثناء الوثائق الرسمية، وهي الأحكام، كما ذكرت. بالعودة ثانيةً إلى نورمبرغ، بالنظر إلى نورمبرغ ولحظات أخرى بارزة في القانون الجنائي الدولي في تاريخ ألمانيا، ما هي أفكارك حيال توثيق حالات مثل هذه كتلك التي حدثت في كوبلنز؟
كلاوس كريس (00:01:34):
أعتقد أنه يجب بالطبع تحسين بعض الأمور فيما يتعلق بالتوثيق. لا شك في ذلك. لكن يجب رؤية هذا أيضا قليلا في منظوره الصحيح يا بلقيس، عندها سنرى أنه يُمكن – وحتى يُحتمل – وجود إمكانية لتحسين عملية التوثيق. لنعد قليلا إلى موضوعنا، وهو المحاكمة – والإدانة – لسوري متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لتورطه في نظام تعذيب أقامه نظام الأسد. وبشكل أدق: المساعدة والتحريض على جريمة ضد الإنسانية. بدأ تجريم الجرائم ضد الإنسانية على هذا النحو في ألمانيا في يوليو/تموز 2002، رغم أن للجرائم ضد الإنسانية أهمية تاريخية للبلاد لأنها كانت جزءا من إرث نورمبرغ.
[الحُكم] القضائي يقع في نهاية سلسلة النشاط القضائي. أولا، تطبيق قانون الجرائم بموجب القانون الدولي هو بيد الشرطة والمدعي العام. وهم من يحددون الأهمية التي تكتسبها تلك الجرائم. في تلك المرحلة، مع شعور هذه الأطراف بأن على عاتقها مهمة، يتم تقرير الأهمية التي يكتسبها مثل هذا القانون. لكن إذا كان ثمة شعور بتأدية مهمة، كما هو الوضع حاليا في ألمانيا كما أعتقد، ستكون نهاية هذه الإجراءات، ويجب أن تنتهي، أمام القضاء. لكن يواجه القضاء بدوره إجراءات أخرى، تختلف بدورها تماما عن الإجراءات التقليدية.
(00:04:22)
جانب التوثيق هو من أهم تلك العناصر الجديدة غير المعتادة. ففي حالة محاكمة ألمانية عادية، حتى لو كانت مهمة جدا للجمهور الألماني، لا توجد حاجة للتوثيق بلغات أجنبية. لا توجد حاجة كبيرة – يمكنني القول، لا توجد ضرورة حاسمة – للتأكد من أن المراقبين حول العالم يتابعون المحاكمة. لأن المحاكمة الألمانية التقليدية تتعلق بأمر يهم الادعاء الوطني، الألماني. لكن يتغير ذلك بشدة عندما يتعلق الأمر بممارسة الولاية القضائية العالمية على الجرائم بموجب القانون الدولي. هنا، ألمانيا لا تقاضي في المقام الأول لتلبية مصلحة وطنية في الادعاء. هنا، ألمانيا – إذا صح القول – تعمل بصفتها مؤتمنة من المجتمع الدولي بسبب سلوك واجَهَ، وانتهك، المصالح الحيوية للمجتمع الدولي ككل. وفي حالة مثالية، يجب أن يُترجم هذا إلى الإطار الإجرائي.
ينبغي، أولا وبدايةً، أن يُترجم إلى احتمال وقوع ضحايا للجرائم المعنية، وهم عادةً من جنسية أجنبية. والضحايا لا يشاركون كشهود فحسب، لكن يجب أن يكونوا أيضا قادرين على متابعة محاولة تحقيق العدالة في قضاياهم. لكن الاهتمام هنا يتجاوز ضحايا الجرائم. فعليا، الاهتمام دولي. أعتقد أننا فهمنا بشكل متزايد أن المهمة الأساسية، إن لم تكن الجوهرية، للعدالة الجنائية الدولية هي التعبير عن غاية، هي نقل رسالة. وهذه الرسالة هي دعم القيم الدولية الأساسية، ودعم صلاحية القواعد القانونية الدولية، حتى في حالة انتهاك جسيم. هذه هي الفكرة وراء المحاكمات المتعلقة بسوريا. إنها لمواجهة العالم برسالة: نعم، ربما شعر السيد الأسد ونظامه لسنوات عديدة بأنهما في وضع يسمح لهما بالدوس على المبادئ الدولية الأساسية، لكنه هو ونظامه لن ينتصرا.
(00:07:45)
ليست رسالتهما التي ستصمد، إذا جاز التعبير، أمام اختبار التاريخ، بل المثابرة والحفاظ على القاعدة القانونية الدولية من خلال إجراءات قضائية عادلة. ولكي تكون هذه الرسالة قوية، ينبغي إيصالها إلى الجمهور الألماني، والمجتمع الدولي ككل، لأن المجتمع الدولي ككل هو المتلقي النهائي لمثل هذه الإجراءات. وهذا يستلزم تغييرات إضافية، كما أعتقد، في الإطار الإجرائي الألماني. ولكن، إحقاقا للحق، لا ينبغي لأحد لوم المشرّع الألماني، وحتما لا ينبغي لوم القضاء الألماني، على عدم تأسيس إطار إجرائي حتى الآن يعكس تماما الأهداف التي تنفرد بها العدالة الجنائية الدولية. إنها عملية تمر بالتعلم من الأخطاء. إنها عملية لا يستطيع فيها حتى أفضل المشرعين وأكثرهم حماسا التنبؤ بأي شيء ولا يمكنهم رؤية أي شيء أو النظر في أي شيء بإجراء تشريعي واحد.
(00:09:20)
من المهم في تجاربنا، كما نفعل في هذه المحاكمة السورية، أن نستخلص العبر، ويجب فعل ذلك في ألمانيا. ويجب مشاركة هذه التجارب مع العالم الخارجي في حال لم يسبق له أن قام بتلك التجارب، إذ يجب ألا ننسى أن تلك الإجراءات الألمانية مهمة. وفي حالة سوريا، قد يكون لها تأثير ريادي. لكن الفكرة هي أنه في المستقبل، لن تكون ألمانيا وحدها، بل ربما ألمانيا والآخرون، وأيضا من المحتمل أن تكون هناك العديد من الحالات التي لا يكون فيها القضاء الألماني فحسب، بل القضاء الوطني في دول أخرى هو الأفضل بكثير لحمل المشعل، لكن يمكنهم الآن أيضا التعلم من العيوب التي نشهدها هنا في ألمانيا الآن.
نيومي كيكولر
نيومي كيكولر هي مديرة "مركز سايمون-سكيوت لمنع الإبادة الجماعية" في "متحف الهولوكوست التذكاري" بالولايات المتحدة. تتحدث إلى هيومن رايتس ووتش عن التجربة المتواضعة والمحبطة للدفاع عن المساءلة عن الفظائع المرتكبة في سوريا، والتحديات، والإخفاقات. كما تتحدث عن علاقة متحف الهولوكوست بسوريا، وجهوده لإحياء ذكرى الانتفاضة السورية وروايتها، وأهوال الاعتقال في سوريا.
تابعوا نيومي هنا: https://twitter.com/NaomiKikolerنيومي كيكولر (00:00:00):
اسمي نيومي كيكولر وأنا مديرة "مركز سيمون سكيوت لمنع الإبادة الجماعية" في "متحف الهولوكوست التذكاري" بالولايات المتحدة في واشنطن. كان جداي لوالدي من الناجين من الهولوكوست. فقد جدي جميع أفراد عائلته وأثناء نشأتي كان لصمته، كما كان لقصص جدتي حول ما كان عليه الحال في "أوشفيتز" وأماكن أخرى، أثرٌ كبير في حياتي. ومن جانب والدتي العائلة مسيحية. لقد كانوا جزءا من المقاومة الدنماركية، وقد ساعدت هذه القصص حقا في تحفيزي فيما يتعلق بما يمكن أن يفعله الناس لمحاولة مساعدة الآخرين. في بداية الانتفاضة السورية، بدأت العمل مع زملائي، بما في ذلك في "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية" وأماكن أخرى في وظيفة سابقة، وأمضيت حوالي ثماني سنوات أشرك "مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة"، والجهات الفاعلة المختلفة في الأمم المتحدة، والدول الأعضاء في الشأن السوري. لقد كان في بعض الأحيان عملا متواضعا ومحبطا بشكل لا يصدق. وبعد ثماني سنوات خاصة السنوات التي عملت فيها في الشأن السوري، وجدت نفسي أفكر كثيرا في أننا لا نلقى آذانا صاغية، فقد كان من الصعب على أي شخص أن يقول إنه لا يعرف عن الجرائم التي تحدث في سوريا حينها. لقد كانت الجرائم تتكشف أمام الكاميرات في جميع أنحاء العالم في الأخبار، وفي صحفنا، وكانت منظمات المجتمع المدني السوري البطولية تعمل بجد بشكل لا يصدق لتقديم معلومات مفصلة بالتزامن مع الفظائع التي تحدث. ومع ذلك كنا دائما نواجه تقاعسا لا يصدق. وهذا لا يعني أنه لم يتم فعل أي شيء، فقد بُذلت جهود، لا سيما من قبل بعض الدول منفردة لمعاقبة المشاركة الدبلوماسية للأفراد. كان هناك الكثير من الإجراءات التي تم اتخاذها، لكنها لم تترجم على أرض الواقع. وبكل صدق، عندما غادرت نيويورك، شعرت بحزن شديد، لأنه كان من الصعب النظر إلى سوريا وعدم الشعور باليأس، بأن العالم، إلى حد ما، لا يهتم.
(00:02:10) لذلك كان أحد الأشياء التي بدأنا في محاولة القيام بها في المتحف هو التفكير بشكل استراتيجي حول كيفية إضفاء الطابع الإنساني على ما يحدث في سوريا، وهوية الأشخاص الذين نود إحضارهم إلى واشنطن ليرووا قصصهم، إذا كان بإمكاننا إدخالهم إلى البلاد، وكان ذلك تحديا حقيقيا. وهوية الأشخاص الذين نريد إحضارهم إلى "البيت الأبيض" و"الكونغرس" ليتحدثوا عما حدث معهم، سواء من حيث المعرض، أو مقاطع الفيديو التي أنتجناها. ولكن أيضا، الفعاليات التي سنعقدها، كيف نفعل ذلك بطريقة تنقض الرواية التي كان يحاول نظام الأسد ترويجها. والحقيقة هي أن العبء الأكبر للعمل يقع على عاتق الأشخاص الموجودين في البلدان التي نركز عليها، وهم غالبا الجندي المجهول وغالبا ما لا يحصلون على الدعم المطلوب. وغالبا ما يقومون بهذا العمل لأن المجتمع الدولي لم يؤدِ دوره. وأعتقد أن ما هو صعب، عندما نفكر في قيصر ونفكر في جميع زملائنا السوريين، هو أنهم بطريقة ما يجدون القدرة والقوة والعزم الداخلي على الاستمرار، حتى في مواجهة شعور بأنهم في كثير من الأحيان يشاركون معلومات وتجارب قوية وشخصية ومؤلمة حقا ولا يتم فعل أي شيء حيال ذلك.
(00:03:40) بنينا هذا المعرض، وكان المعرض قويا بشكل لا يصدق. كان يسمى "سوريا، نرجوكم لا تنسونا". روى المعرض قصة الاعتقالات، وقصة الانتفاضة، وقصة الفظائع الجماعية المروعة التي ارتُكبت، رواها فرد واحد و82 شخصا احتُجز معهم. هذا الشخص هو الصحفي منصور العمري، الذي هرّب على خمس قطع قماش أخاطها بثيابه 82 اسما لأشخاص احتُجز معهم، وتعرضوا للتعذيب. كتبوا أسماءهم بالدم والصدأ على هذه الأقمشة. وكما تعلمين، من المؤلم للغاية التفكير في كل واحد من هؤلاء الـ 82 شخصا، وما يمثلونه لمئات الآلاف الذين شاركوا ويتشاركون نفس المصير. لكن كانت قوة المعرض هي أننا سعينا إلى محاولة سرد قصة هؤلاء الـ 82 شخصا وقصة منصور بطريقة أخلاقية من خلال صوته وذكرياته.
(00:05:07) قتل في المحرقة 6 ملايين يهودي اضطهدوا على أساس هويتهم. أعتقد أنه بالنسبة للعديد من الناس في بعض الأحيان، يتفاجؤون برؤية المؤسسة التي تم إنشاؤها لتروي قصة مجتمع واحد – وليس المجتمع اليهودي فقط – تقف متضامنة بهذا الشكل مع الضحايا والناجين السوريين. لكن بالنسبة لنا، دائما ما يكون الموقف قوي جدا حينما نقول إننا نركز على التجربة البشرية. لا يهم دين الشخص أو عرقه أو جنسيته أو هويته السياسية.
أعتقد أن انعقاد أول محاكمة للتعذيب المرتكب من قبل الدولة في سوريا في ألمانيا رائع جدا وتاريخي. لقد مضى وقت طويل ونحن ننتظر رؤية المجهود الكبير يؤتي ثماره، ولكن حقيقة أننا نرى قضية تتعلق بجرائم ضد الإنسانية، وأن هناك منظمات تمثل الآن، أكثر من 30 سوريا من ضحايا التعذيب، الذين نأمل أن يكونوا قادرين أيضا من خلال تلك التجربة إسماع تجاربهم وأصواتهم. أحد الأشياء التي نعرفها من الهولوكوست هو أن الناجين لا يتخلون عن السعي إلى تحقيق العدالة. كما تعلمين، في نفس الوقت الذي كانت تنعقد فيه محاكمة كوبلنز – أعتقد أنه بدأت في أبريل/نيسان 2020 – كانت المحاكم الألمانية تنظر أيضا في قضايا تتضمن أشخاصا من مرتكبي الهولوكوست، أي أشخاص ارتكبوا جرائم منذ 80 عاما. مرة أخرى، فإن هذا القاسم المشترك هو ما نحاول في عملنا أن نساعد في استحضاره، إنكار كرامة الإنسان وما يجب القيام به في المواقف التي تحدث فيها هذه الجرائم بهذه الشكل العميق. أعتقد أنه أمر صارخ بشكل لا يصدق أن تكون هذه المحاكمات تحدث، وتحدث في البلد الذي ارتكبت فيه إبادة جماعية مروعة وجرائم ضد الإنسانية قوية للغاية. ولكن تشعرين أيضا بالتواضع لمعرفة مدى صعوبة بناء هذه القضايا. أعتقد أنها أحد الأشياء التي نحاول حقا التحدث عنها كثيرا مع زملائنا السوريين. ومن خلال عملنا القضائي مع زملائنا في جنوب السودان والعراق وبورما نحاول أيضا المساعدة في خفض سقف التوقعات لأننا نعلم أن الطريق إلى العدالة قد يكون طويل جدا لدرجة أن مصطلح العدالة هذا يعني الكثير والعديد من الأشياء المختلفة لأشخاص مختلفين، وأن المحاكمات ليست سوى وسيلة واحدة لمحاولة تعزيز المساءلة حقا. وعندما نفكر في العدالة الانتقالية، هناك العديد من الجوانب المختلفة التي نحتاج إليها لمحاولة المضي قدما والتقدم.
سارة الكيالي (00:07:50):
ما الذي تأملين أن ترينه لسوريا بعد عشر سنوات من الآن؟
نيومي كيكولر (00:07:58):
آمل حقا أن يتمكن أصدقائي وزملائي من العودة إلى ديارهم وأن يعيشوا حياتهم، في مكان يكون لديهم القدرة على الازدهار وجعل التزامهم بحقوق الإنسان واحترام التنوع جزءا من حياتهم اليومية. هناك الكثير مما يجب أن يحدث حتى يتمكن الناس من العودة إلى ديارهم ويكونوا بأمان. أعتقد أنه على المستوى الإنساني فقط، ما آمله هو ألا يضطروا إلى الاستمرار في العيش في المنفى لأنه، في الكثير من العمل الذي نقوم به، وهو جزء من هدفنا في هذا الجهد لمحاولة إضفاء الطابع الإنساني على الأزمة، وأيضا محاولة لمواجهة هذه التصورات المهينة حقا بأن السوريين الذين يفرون كلاجئين يفعلون ذلك لأنهم يريدون استغلال البلدان الأوروبية أو أي مكان آخر. ولكن كل شخص نعمل معه، إذا سألتيه عما يريد القيام به، فكلهم يريدون العودة إلى ديارهم. يريدون بناء مستقبل بلدهم. هؤلاء هم الأشخاص الذين لديهم مهارات رائعة، وطاقة وتفانٍ، وهم يغيرون البلدان التي هم فيها اليوم، والذين لجأوا إليها وأنا أقف مذهولة أمامهم. لكن الحقيقة هي ما آمله خلال عشر سنوات، هو أن يكونوا قادرين على القيام بكل ذلك سعيا وراء مستقبلهم في البلد الذي ولدوا فيه ويحبونه بشكل كبير. وبالرغم من معاناتهم وأحبائهم من صدمة هائلة وحقيقة لا يمكن إصلاحها بالكامل، ولكن ربما بطريقة بسيطة يمكن توجيهها لمحاولة بناء مستقبل أفضل لسوريا. إذا، هي رغبة بسيطة حقا من حيث المبدأ وما نطمح إليه كبشر، لكنها صعبة للغاية عندما نفكر في الحقائق السياسية والوقائع الأمنية اليوم في سوريا.
(00:10:14) آمل أنه بعد عشر سنوات، سنجلس جميعا في دمشق أو في مكان ما في حلب ونتناول وجبة ممتازة. وكرم الشعب السوري الرائع شيء يمكننا جميعا الاستمتاع به. جمال وتاريخ البلد – رغم أنه يحتاج إلى الكثير من إعادة البناء – هو شيء يختبره ويتمتع به الناس في جميع أنحاء العالم. قصة سوريا لا تتصدر العناوين، وسأكون صريحة، أتمنى أن نتصفح العناوين اليوم ونشاهد روايات عما يحدث، لأنه للأسف لا أحد يتحدث عما يحدث الآن. من يفهم سوريا حقا يعرف أنها دولة رائعة حقا ساهمت في الكثير للعالم ولا تزال مستمرة. هذا أملي للسنوات العشر القادمة.
ألكسندر سوتور وألكسندر دونكلسبولر
ألكسندر سوتور وألكسندر دونكلسبولر هما من شركة كليفورد تشانس للمحاماة وراقبا محاكمة كوبلنز لصالح هيومن رايتس ووتش. يتحدث كلاهما إلى هيومن رايتس ووتش عن التطورات التي حدثت خلال الأيام الأولى لمحاكمة كوبلنز ورأييهما حول التأثير الكلي لهذه المحاكمة على العدالة الدولية.
بلقيس جراح (00:00:00):
هل يمكنكما أن تعرّفانا بأنفسكما؟ فقط الاسم الكامل، وحدّثانا عمّا تفعلانه. لنبدأ مع أليكس.
أليكس سوتور (00:00:05):
أليكس. حسنا، اسمي أليكس سوتور، وأنا باحث مساعد في قسم ذوي الياقات البيضاء [العاملين في الوظائف الإدارية والمكتبية] في شركة المحاماة "كليفورد تشانس"، مكتب فرنكفورت.
أليكس دونكلسبولر(00:00:20):
اسمي ألكسندر دونكلسبوهلر، باحث مشارك في قسم التحكيم الدولي بشركة كليفورد تشانس، في فرنكفورت أيضا.
بلقيس جراح (00:00:27):
أودّ أن أطلب منكما، الآن وقد غطيتما المحاكمة لمدة شهرين تقريبا، منذ أبريل/نيسان، عن أهمّ اللحظات غير المتوقعة أو الدراماتيكية في المحاكمة حتى الآن؟
لكن قبل أن نتعمق في ذلك، وحتى يفهم المستمعون، هل تُحدّثانا بإيجاز عن هذه المحاكمة؟ ما هي الجرائم التي نتحدث عنها؟ من هم المتهمون؟ وأين تدور أطوارها؟ فقط أهم الوقائع.
أليكس سوتور (00:01:08):
نعم، بالتأكيد. هي محاكمة جرائم حرب في ألمانيا، وهذا أمر غير معتاد نوعا ما لأنّ جميع المتهمين ليسوا ألمان، وجميع الضحايا ليسوا ألمان أيضا، وطبعا جميع الأعمال المزعومة لم تحصل في ألمانيا. هذه المحاكمة صارت ممكنة بسبب تعديل حديث نسبيا أدخل على القانون الجنائي الألماني، ويُسمى Völkerstrafgesetzbuch، ويعني القانون الجنائي للجرائم الدولية، الذي مكّن الهيئات القضائية الألمانية من أن تقرّر أنه ينبغي ملاحقة جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في ألمانيا حتى وإن لم تكن لها أي صلة بألمانيا بأي شكل من الأشكال.
ولهذا هناك محاكمة في كوبلنز الآن لشخصين كان في الأجهزة السرية السورية، أجهزة المخابرات. كان أحدهما رئيسا للوحدة الفرعية للتحقيق في مكان يُسمى "الفرع 251"، وهو مركز اعتقال سرّي للتحقيق وسط دمشق، شمال المدينة القديمة. المتهم الرئيسي متهم بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية من خلال اعتداء منهجي على السكان المدنيين، شمل التعذيب والاعتقال اللاإنساني، وكذلك استجواب الأشخاص تحت التعذيب. وهو عقيد في الأجهزة السرية، وكان رئيسا لقسم التحقيق، أو بالأحرى الوحدة الفرعية للتحقيق في الفرع 251 في منشأة الخطيب، وهو الاسم الذي يُطلق على الحي.
المتهم الثاني كان أيضا موظفا بالمعنى الواسع في الفرع 251، لكنه كان يعمل في وحدة فرعية. كان ضابط صفّ هناك، وهذا مهم، فدور هذه الوحدة لم يتضح بشكل كامل لأن الذي يرأسها كان من عائلة مخلوف، المرتبطة بشكل وثيق بزمرة الأسد الحاكمة. لذلك فالوحدة التي يعمل فيها هي عبارة عن مزيج بين وحدة منع التظاهر، ووحدة الاعتقال، وكذلك الحرس الشخصي لحافظ مخلوف، قائد الوحدة.
وهو متهم بالمساعدة والتحريض على الجرائم ضدّ الإنسانية، عبر اعتقال أشخاص وتسليمهم إلى الفرع 251 لاستجوابهم وتعذيبهم، وهي المنشأة التي حصلت فيها حالات وفاة. تبيّن أنه أساسا متهم بقتل أشخاص في سياق جرائم ضدّ الإنسانية، وعقوبتها السجن المؤبد. ولذلك فالمخاطر عالية هنا.
بلقيس جراح (00:04:28):
وهكذا بدأتما متابعة المحاكمة في أبريل/نيسان، في أواخر أبريل/نيسان، وبالتالي منذ بضعة أشهر. ألكس د، هل يمكنك وصف بعض اللحظات الأكثر دراماتيكية أو غير المتوقعة في المحاكمة؟ ما هي هذه اللحظات؟
أليكس دونكلسبولر (00:04:52):
هذا سؤال جيّد. بالنسبة لي، هناك لحظات بقيت عالقة. بالتأكيد أكثر ما لا يُنسى، أو واحدة من اللحظات التي لا تُنسى كانت لمّا تلت هيئة الدفاع عن أنور رسلان البيان الخاص به. اختار السيد رسلان عدم التحدث بنفسه في المحاكمة حتى الآن، لكنّه أعدّ بيانا مع محامييه، وقاموا بتلاوته في مرحلة مبكرة نسبيا من المحاكمة، وكان مهما جدا لأن جميع الذين كانوا هناك كانوا في انتظاره. الجميع كانوا يتطلعون إلى معرفة نوع الدفاع الذي سيختاره.
شخصيا، وأعتقد أن هذا الشعور كان مشتركا بين العديد من الأشخاص، كُنا ننتظر نسخة أخرى من محاكمات نورينبيرغ، حيث يعترف الدفاع بالوقائع مع التأكيد على أنه كان ينفذ الأوامر، لكن السيد رسلان لم يختر ذلك. قال أساسا إنه لم تكن لديه فكرة عمّا كان يجري، وكان فقط يقوم بعمله في إعداد الأوراق وكتابة التقارير، ولم يتعامل قطّ مع السجناء، ولم يزر أبدا أي سجون فعلية، رغم أنها كانت في نفس المبنى، واستمرّ هذا الوضع لفترة طويلة.
(00:06:14)
بخلاف ذلك، ما بقي عالقا بالنسبة لي هو إفادات الأشخاص الذين مرّوا بالفرع 251 وغرف التعذيب التابعة له. مثلا، السيد أنور البُنّي، المحامي الحقوقي السوري، الذي تحدث لمدة يومين ببلاغة كبيرة عن محنة الذين اختفوا في نظام السجون السوري، والذين تعرضوا للتعذيب والاغتصاب والمعاملة القاسية جدا.
كانت تلك تجربة مروّعة، لأنه عليك أن تتخيلها. كنا نجلس في الشُرفة العامة، ومعنا صحفيان، لكن أيضا عدد قليل من أفراد الجالية السورية في ألمانيا. بعضهم لا يفهمون الألمانية جيدا، لكن السيد البنّي تحدّث بالعربية، ولذلك تمكنوا من المشاركة والاستماع، وكان بوسعنا أن نشعر بالتأثر من حولنا لما تحدث عن المصير الرهيب للذين جلبهم سوء الحظ إلى الفرع 251. كان ذلك مؤثرا للغاية ومزعجا للغاية، وخاصة الوضع الرهيب للذين تعرضوا لاعتداءات جنسية في هذا السجن.
(00:07:41)
قال السيد البُنّي بشكل لا يُنسى إنّ الأشخاص الذين تعرضوا إلى ذلك عوقبوا مرتين: مرة عندما تمّ الفعل في السجن، ومرة ثانية في المجتمع، بسبب العار الذي يخلفه ذلك، وبالتالي فهم لن يتمكنوا من التحدث عنه أبدا. بعضهم صاروا منبوذين من عائلاتهم. قال إنه ساعد بعض النساء على إخفاء الإجهاض في أوقات لاحقة. كان من الصعب جدا الاستماع إلى ذلك، وهو ما أظهر حقا أهميّة ملاحقة هذه الجرائم.
هناك لحظة أخرى بقيت عالقة، وأنا متأكد أن ألكس س له ما يُضيف بشأنها، هي الوقفات الاحتجاجية التي نفذها السوريون أمام المحكمة. كل صباح، يأتون إلى هناك في الصباح الباكر، بعضهم من الساعة 5:30 فجرا، ويجلبون معهم العشرات والعشرات من صور الأشخاص المفقودين في نظام السجون السورية. كانوا يكوّمون هذه الصور خارج قاعة المحكمة، ويضعون عليها ورودا بيضاء، ويصورون أنفسهم معها، ويتحدثون إلى الصحفيين محاولين زيادة الوعي بها، وخاصة لدى المارة. بعد ذلك، بطريقة ألمانية للغاية، لا يُسمح لهم بفعل ذلك في موقع المحكمة نفسه، لأن الاحتجاجات السياسية ممنوعة هناك. لكنهم لا يستطيعون فعل ذلك على الرصيف أيضا، لأن المدينة ستحتج أيضا، بسبب منع وضع الأغراض على الرصيف، ولذلك كانوا يضطرّون إلى الوقوف على الخط الفاصل بين المنشأتين، وهذا أمر سخيف بعض الشيء.
أليكس سوتور (00:09:25):
ما أدهشني حقا هو كيف أظهرت هذه الصور ذلك التقاطع المجتمعي. كان هناك أشخاصا في ملابس العمل، ومن الواضح أنهم التقطوا تلك الصور لتقديم طلبات أو لصفحات رسمية على الانترنت، وكان هناك مراهقين في ملابس رياضية، وأزواجا يلتقطون صورا لهم، وصغارا في رياض الأطفال.. كانت هناك أيضا مجموعات من الأصدقاء يقومون بحركات مسلية أمام الكاميرا. كان من الصعب جدا تخيّل وجود كل هؤلاء الأشخاص: من الروضة إلى المراهقين المجانين إلى رجال الأعمال في منتصف العمر، وجميعهم اختفوا لسبب أو لآخر، واعتُبروا أعداءً من قبل حكومتهم. أظهر ذلك أنها فعلا حرب، وهذه الجرائم لا تتوقف عند أحد. يُمكن لأي شخص أي يُعتقل، ولا مفر من ذلك.
سارة الكيالي (00:10:20):
نعم، وأنا أستمع إليكما تتحدثان عن كيفية وصف أنور ر لدفاعه، ثم عن شهادة أنور البُنّي، أتساءل عن التناقض الكبير جدا بين هاتين الروايتين. كيف كان الأمر بالنسبة إليكما لما كنتما في المحكمة تستمعان إلى هذه الآراء عن دور المحققين في فرع الخطيب؟ وكيف كان الأمر بالنسبة لبقية الحاضرين؟
أليكس دونكلسبولر (00:10:52):
بدا الأمر وكأنهما قدّما عرضا بشاشة منقسمة، كلا الروايتين يستحيل التوفيق بينهما، وأنا أفكّر في كل شيء... حتى لو مال المرء إلى الاقتناع بحجج الادعاء، فإنّ حديث السيد البُنّي بفصاحة كبيرة وتفاصيل دقيقة عن تجربته ليس فقط عن سجن الخطيب في الفرع 251 وإنما أيضا عن معنى الاحتجاز والتعذيب لدى الدولة السورية، ما أعطى صورة مختلفة تماما عمّا حدث بالفعل في سجن الفرع 251.
الأشياء التي شرحها السيد البُنّي لم تكن أخبارا جديدة، لكنها كانت كذلك بالنسبة للمحاكمة، حول مدى اعتماد الحكومة السورية على التعذيب والتهديد بالتعذيب والإخفاء القسري للحفاظ على سلطتها وترهيب المعارضة وعائلات كل من يجرؤ على التكلم. كان الأمر مؤثرا بشكل خاص بالنسبة لجميع الأشخاص الآخرين في القاعة، الذين تمكنوا لأول مرة من متابعة هذه القصة بالعربيّة، وهو ما غيّر من طابع القصّة بأكملها، ساد ذلك الشعور في القاعة. كنت جالسا بين سوريين يدونون ملاحظات، وكانوا مطلعين على ما حصل. كان ذلك مؤثرا للغاية، وكان من الصعب جدا الاستماع إليه. أنا أعلم أنه سيكون هناك المزيد والمزيد من ضحايا التعذيب الذين سيأتون وسيشاركون في الجلسات.
سارة الكيالي (00:12:41):
فعلا، وأنا أعلم أنّ الكثير من السوريين الذين أعمل معهم يتابعون هذا عن كثب. وكما تعلمون، لهم مصادر جيدة للحصول على المعلومات التي يحتاجونها. أريد أن أسأل كيف أثرت هذه المحاكمة على فهمكما للنزاع السوري وكيف تطور فهمكما في الوقت الذي كنتما تراقبان فيه المحاكمة؟
أليكس دونكلسبولر (00:13:10):
بالنسبة لي، أدركت مدى جذب تنظيم "الدولة الإسلامية" الانتباه بعيدا عن نظام الأسد لعدة سنوات. منذ البداية، كان اهتمام وسائل الإعلام العالمية والسياسية منصبا بالكامل على الجرائم التي ارتكبتها الدولة الإسلامية، وهي في الواقع جرائم فظيعة، ولا جدال في ذلك. لكن ربما ذلك حصّن نظام الأسد من الانتقاد بعض الشيء.
تمت مناقشة هذه الجرائم فقط ضمن الحملات العسكرية والأراضي التي تمت السيطرة عليها أو فقدانها. لكن ما عاد فعلا إلى الواجهة من خلال النضال، بالنسبة لي شخصيا، هو الوحشية والقسوة العبثيتين الراسختين في نظام الأسد، وبالتالي في الدولة السورية، ومدى انتشار التعذيب والاختطاف والعنف الذي لا معنى له – حتى في مناطق سوريا التي لم تكن تحت [سيطرة] الدولة الإسلامية، وحتى في سوريا قبل الحرب الأهلية.
لذلك بالنسبة لي، أدى ذلك إلى تعديل صورة النزاع السوري بعض الشيء في ذهني، بعيدا عن "داعش" وبالعودة إلى دمشق إلى حدّ ما. لأنّ هذه هي الأشياء التي يمكنك أن تقرأ عنها، أو تسمع عنها. لكن الأمر مختلف تماما بالطبع عن الجلوس هناك، في حضرة ضحايا تعذيب مثل أنور البُنّي وهو يروون شهاداتهم. هذا يجعل الأمر شخصيا أكثر، وسيؤثر فيك بطريقة مختلفة تماما. وبالتالي، هذه هي الأشياء التي خرجت بها شخصيا في ما يتعلق بسوريا بشكل عام.
أليكس سوتور (00:15:05):
حسنا، الشيء الذي أدهشني هو أنّنا يجب ألا ننسى أنّ المحاكمة تقدّم لنا لمحة عن هذا النزاع... الذي بدأ في 2011، ثم إلى الوقت الذي انشقّ فيه المتهمون، لأنه من الواضح أنّ هذه هي الأوقات المهمة في المحاكمة.
لكن ما أعتقد شخصيا أنّه المأساة الكبرى هو كيف أنّ هذا النظام ليس لديه وسائل للتعامل مع مطلب التغيير، مع المظاهرات والعصيان المدني، أليس كذلك؟ كما تعلمين، نحن نحصل على تقارير عما تمت مناقشته في المحاكمة وهي فترة 2011، حين لم تكن هناك حرب أهلية بعد، وحيث كان الناس يتظاهرون ويحتجون في الشوارع بسلام، وهم يغنون ويرقصون.
لا أدري، لكن ردّة الفعل الأولى لحكومة عاقلة ستكون: "حسنا، هؤلاء الناس مهتمون بالمجتمع المدني. هؤلاء هم الأشخاص الذين يجب علينا التعامل معهم، وربما إدخال إصلاحات والاستماع إليهم". لكن الوسيلة الوحيدة المتوفرة هي المطرقة، وكل شيء آخر كان يبدو كالمسمار. لم يكن لديهم أسلوب للردّ إلا بالعنف الهمجي، وهو ما حصل بالفعل.
هناك واقعة تم وصفها مرتين: حيث صادف أن حضر حافظ مخلوف في مظاهرة، ودخل في صراخ متبادل مع المتظاهرين – في مظاهرة سلمية – فعاد إلى سيارته المعدّلة من طراز "مرسيدس بنز" للطرق الوعرة، وأخرج بندقيته الرشاشة وأفرغ شحنتها على المتظاهرين، ثم حثّ الأشخاص المحيطين به والجنود على القيام بنفس الشيء.
أعتقد أنّ ما يدهشني حقا هو أننا أما وجهة النظر هذه: النظام السوري وجماعة الأسد هم مجموعة من الأشرار الذي لهم مخطط كبير لقمع الناس وما إلى ذلك. وما يحصل فعلا، في تعاملهم مع العصيان المدني ومطالب التغيير، يثبت أنهم على نفس القدر من الهمجية وعدم الكفاءة.
هم يتعاملون بالعنف فقط، وليس لديهم أي شيء آخر يفعلونه. وكما قلت، فإن المأساة هي أن الصورة التي كنا نقدّمها أثناء المحاكمة، إذا أخذنا في الاعتبار النزاع السوري ككل، في وقت يسوده التفاؤل أكثر، فإنه عليك التفكير في أنّ أنور ر انشق لأنه اعتقد أن نظام الأسد سيسقط، ولم يكن يرغب في أن يُقبض عليه وهو مع الطرف الخاسر في تلك المعركة، كعنصر في جهاز المخابرات.
وهذا ما يحدث عندما يتحدث الناس عن تلك الأيام في 2011. بالطبع نحن نعلم الآن أنّ النظام لم يسقط، وأنّ الحرب استمرّت. كما تعلمون، فإنّ الكثير من الشهود يتحدثون دائما عن مدنهم الأصلية، وجميعها تحولت إلى ركام. نحن نعلم ذلك من الأخبار.
من هذا المنظور، فإن الخط الزمني للمحاكمة، يحصل كله في المستقبل بطبيعة الحال. وبالتالي فإنّ ما خرجتُ به هو أننا ننظر إلى ذلك من منظار الحاضر ونقول "حسنا، كما تعلمون، تحوّل كل شيء إلى حرب أهليّة، فصارت توجد فصائل متحاربة، ولا واحدة منها تستحق دعمنا. هناك الإسلاميون وهناك النظام، وهناك متمردون مدعومون من جميع أنواع الحكومات". لكن هذا لم يكن حتميا، أليس كذلك؟
في البداية، كانت هناك حملة مدنية سلميّة جدّا من أجل التغيير الاجتماعي والمجتمع المدني، لكنها قُمِعت واعتُبرت خطرا على الدولة، وهو ما يعيدنا فعلا إلى ذلك الوقت: كان من الممكن اعتماد طرق أخرى، لكن كما تعلمون، ذلك لم يحصل.