نشرت "إيروارز" هذا الأسبوع نصّا لموجز صحفي للبنتاغون أدلى خلاله نائب مدير القيادة المركزية المعني بالعمليات باعتراف صادم يتعلق بالتحقيقات الأمريكية حول الخسائر المدنية في سوريا:
سؤال: إذن، لم تتحدثوا إلى أي شخص على الأرض، ولم يزر أحد الموقع. هل هذا صحيح؟
الجنرال بونتراغير: هذا صحيح يا بيل، وإنه أمر شائع. من النادر أن نقوم في غارات جوية من هذا القبيل بالتواصل مع أشخاص على الأرض، ومن غير المألوف مطلقا أن نتحدث إلى أي شخص على الأرض.
جاء هذا الاعتراف في سياق حديث بونتراغير عن تحقيقه حول غارة الجينة في 16 مارس/آذار 2017، غارة أمريكية تقول منظمات غير حكومية حقوقية إنها قتلت ما يصل إلى 38 مدنيا يصلّون في أحد المساجد. خلص بونتراغير، في المقابل، إلى "احتمال" وفاة مدني واحد فقط.
أعربت منظمات حقوقية منذ فترة طويلة عن قلقها إزاء عدم كفاية التحقيقات الأمريكية في عواقب الغارات الأمريكية في أفغانستان وسوريا والصومال والعراق واليمن وأماكن أخرى، لكن من النادر أن يصدر اعتراف عام ومفتوح من البنتاغون يقول بأنه نادرا ما يقوم المحققون بزيارات ميدانية أو يتحدثون مع شهود أو أشخاص آخرين على الأرض.
وصف بونتراغير تحقيقاته في غارة الجينة قائلا إنه "لم يترك أي جانب إلا وحقق فيه". انتقد مدير الاستخبارات القومية الأمريكية في موضع آخر أبحاث المنظمات غير الحكومية حول الغارات الأمريكية، وأكد استخدام الحكومة الأمريكية "منهجيات خاصة بالغارات تم صقلها وتطويرها على مر السنين".
لكن اخفاق الحكومة الأمريكية في إجراء مقابلات منتظمة مع الشهود يُعتبر عيبا كبيرا في منهجية التحقيق المتبعة. عدم وجود شبكات علاقات على أرض الواقع والمخاوف الأمنية و/أو المسائل المتصلة بالحياد كلها أمور يمكن معالجتها عندما تكون ضرورية لإجراء تحقيقات موثوقة.
تستبعد تحقيقات الحكومة الأمريكية بانتظام أحد أهم مصادر الأدلة، وتتناقض مع أفضل الممارسات الدولية لتقصي الحقائق التي طورها الباحثون والمحققون خلال العقود الماضية مع المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان والأمم المتحدة والمحاكم الجنائية الدولية. لن يكون من الصائب في تلك السياقات الإبقاء على الممارسة المنتظمة المتمثلة في "التحقيق" في انتهاكات حقوق الإنسان أو القانون الإنساني من دون زيارات ميدانية حيثما أمكن، ومن دون التحدث مع الشهود والضحايا والأقارب. إجراء المقابلات أمر ضروري لدرجة أنه وُصف بـ "حجر أساس" عمليات تقصي الحقائق في مجال حقوق الإنسان. كل دليل أو مبادئ توجيهية رئيسية لتقصي الحقائق في مجال حقوق الإنسان تتضمن أقسام مهمة عن إجراء مقابلات مع الشهود (انظر هنا وهنا وهنا وهنا).
طور محققون حقوقيون تقنيات لإجراء تحقيقات ميدانية ومقابلات مع الشهود في جميع أنحاء العالم، بما فيها المناطق التي تعاني من انعدام شديد للأمن ومناطق النزاع، مثل أفغانستان وجمهورية أفريقيا الوسطى وسوريا والعراق والفلبين وليبيا واليمن. يزور المحققون المواقع لمراقبة الأضرار المادية حال حدوثها، ويجرون مقابلات مع الشهود والناجين للحصول على معلومات أساسية حول ما حدث وكيف ومتى وأين.
بطبيعة الحال، الأدلة التي تُجمع من الشهود قد تشوبها عيوب: فقد يكون لديهم ذاكرة ضعيفة، وقد يكونون متحيزين، وقد يقدمون شهادة كاذبة عمدا (يقدم القسم الذي كتبته ميغان فوستر لينش في كتاب Counting Civilian Casualties (2013)، وكتاب نانسي أ. كومب Fact-Finding without Facts (2010) نظرة عامة ممتازة حول التحديات المتصلة بالحصول على شهادة موثقة وموثوق بها). ولذلك يجب تدريب المحققين في مجال حقوق الإنسان على تقنيات إجراء المقابلات مع الكثير من الناس، والسعي إلى تأكيد تصريحات الشهود مع مصادر معلومات أخرى مثل الزيارات الميدانية والأدلة المادية والأدلة الفوتوغرافية والتقارير الطبية وسجلات المستشفيات، وما إلى ذلك.
قال بونتراغير إن فريقه استعرض "كل الفيديوهات والصور المتاحة". تستخدم العديد من المنظمات الحقوقية بشكل متزايد تقنيات تصوير الأقمار الصناعية وتقنيات أخرى لتوثيق الانتهاكات الحقوقية وانتهاكات القانون الإنساني. لكن نادرا ما تكون هذه التقنيات بديلا كاملا عن التحدث مع الضحايا والشهود الذين يساعدون على تقديم تفاصيل سياقية هامة وحل التناقضات وتسليط الضوء على هويات ودوافع ونوايا المنفذين. يمكن أن يساعد هذا التواصل المباشر أيضا في تبديد الافتراضات الخاطئة التي قد تكون للجيوش الأجنبية حول "أنماط الحياة" غير مألوفة. كانت روايات المدنيين الأفغان عاملا أساسيا ساعد قوات التحالف على التمييز بين المزارعين ومقاتلي طالبان، وإدراك أنهم يعملون ليلا في الزراعة هربا من حر الشمس نهارا، وإنهم لا يزرعون عبوات ناسفة قرب الطريق.
التحدث إلى الضحايا والشهود وباقي الأشخاص على أرض الواقع يُساعد أيضا على إكساب هذه التحقيقات قدرا أكبر من الشفافية. في غياب الشفافية، كثيرا ما تنتقد المجتمعات المتضررة هذه التحقيقات وتعتبرها سرية وغير كاملة. من المهم أيضا الإعلان عن أكبر قدر ممكن من نتائج التحقيق، وهو أمر لم يفعله البنتاغون في هذه الحالة، ما يمنع أي استعراضات مفصلة مستقلة لأساليبه ونتائجه. الاحاطات الصحفية القصيرة (المغلقة) تبقى غير كافية مطلقا.
يعتبر التحقيق في غارة الجينة مثالا صارخا على أهمية مقابلة الشهود. في أعقاب الهجوم مباشرة، ادعت السلطات الأمريكية إصابتها قاعة مجتمعية. صحيح أن المراقبة الجوية لم تر في المبنى قبة أو مئذنة تشير إلى كونه مسجدا، لكن تصريحات الشهود المتعددة التي شرحت بالتفصيل تصميم المبنى المستهدف وفي ما يتم استخدامه، فضلا عن الصور وأشرطة الفيديو التي صوّرت من داخله، سمحت لمنظمات المجتمع المدني باستنتاج أن المبنى المستهدف كان جزءا من مسجد، وهي حقيقة اضطر البنتاغون أيضا إلى الاعتراف بها بعد تحقيقه.
إجراء تحقيق شامل في غارة الجينة قد يساعد على سبيل المثال على تحديد عدد المقاتلين الذين كانوا من مرتادي المسجد، وكم مدني منهم، وإذا كانت المعلومات الاستخباراتية قبل الغارة قد أعطت تقديرا صحيحا لهذا. صحيح أن تحديد هذه المعلومات ليست المسألة الوحيدة التي ينبغي النظر فيها عند تقييم شرعية الهجوم، إلا أن تحديد هذه الوقائع يعتبر مهما في تقييم موثوقية المعلومات الاستخباراتية بحيث يمكن استخلاص الدروس من الهجمات التي تتسبب في وقوع خسائر في صفوف المدنيين أعلى من المتوقع. إجراء مقابلات مع الشهود سيساعد على تقديم معلومات هامة عمن كان مدنيا ومن كان مقاتلا، خاصة إذا كان الناس لا يحملون أسلحة أو يرتدون زيا موحدا.
في بعض الحالات، تواجه المنظمات غير الحكومية والأمم المتحدة صعوبات في زيارة أو إجراء مقابلات مع الشهود، في المواقع التي يزعم تعرضهم فيها لسوء المعاملة بسبب انعدام الأمن أو منع الجهات الحكومية وغير الحكومية الفاعلة من الوصول إليها، أو المخاوف من الانتقام من الشهود أو أسرهم إذا شوهدوا مع محققين. في مثل هذه الحالات، وجد الباحثون الحقوقيون طرقا أخرى للحصول على الأدلة حيث يجري بعضهم مقابلات في مواقع خفية أو يعملون مع باحثين آخرين ممن يمكنهم التواجد مع الشهود بأمان أكثر؛ أو يجلبون الشهود إلى مواقع أخرى، ويُجرون معهم مقابلات في بلدات أو بلدان أخرى بعيدة عن موقع الهجوم؛ أو قد يجرون المقابلات عبر الهاتف أو الفيديو. على سبيل المثال، عندما رفضت كوريا الشمالية دخول لجنة الأمم المتحدة للتحقيق إلى البلاد، أجرت اللجنة مقابلاتها مع الشهود في بلدان أخرى. أجرت المحاكم الجنائية الدولية والمحكمة الجنائية الدولية مقابلات مع شهود بعيدا عن مواقع النزاع المباشر.
عندما لا تجري المنظمات غير الحكومية أو الأمم المتحدة زيارات أو مقابلات ميدانية، تنتقدها الحكومات بقسوة، حيث انتقدت حكومة الولايات المتحدة بشدة مثلا تقريرا صدر في 2006 للمقررين الخاصين للأمم المتحدة بهذه العبارات:
إنه لمؤسف حقا أن يرفض المقرران الخاصان الدعوة لزيارة غوانتانامو. [رفض المقرران الزيارة بعد أن قالت الولايات المتحدة إنها ستفرض قيودا على دخول المعتقل، ومنها الوصول إلى المحتجزين]. نتيجة لذلك، فإن تقريرهما لم يعكس أي معرفة شخصية مباشرة كانا سيحققانها خلال هذه الزيارة... نحن نعارض بشكل قاطع معظم محتوى التقرير واستنتاجاته كونها دون أساس ولا تستند إلى وقائع... والتي كان سيراها [فريق الأمم المتحدة أثناء زيارته] فيما يتصل بظروف الاحتجاز مباشرة.
اتهمت الحكومة الأمريكية محققي الأمم المتحدة بعدم إجراء "تحقيقات ذات مغزى"، مدرجة فشلهم في زيارة غوانتانامو كأول "عيب" في تحقيق الأمم المتحدة. كما انتقدت فريق الأمم المتحدة لعدم تحدثه مباشرة مع مسؤولي وزارة الدفاع الأمريكية في واشنطن.
لا يمكن إنكار أنه قد يكون من الصعب على الحكومة الأمريكية التحدث مباشرة مع الضحايا والشهود حول غارة الجينة أو غاراتها الأخرى في مواقع غير آمنة، إلا أن هذا لا يسمح للحكومة بالتخلي عن مسؤولياتها في إجراء تحقيقات شاملة تجاه ادعاءات خطيرة من هذا القبيل تتحدث عن وقوع إصابات بين المدنيين وانتهاكات لحقوق الإنسان. يقتضي القانون الدولي من الحكومات إجراء تحقيقات شاملة في الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان والانتهاكات الإنسانية المزعومة. ينبغي أن تكون التحقيقات في حالات الوفاة غير القانونية المزعومة فورية وفعالة وشاملة ومستقلة وشفافة، مع تمكين الضحايا وأسرهم من الحق في الحصول على معلومات عما حدث.
أثبت المحققون الحقوقيون أنه يُمكن التغلب على العقبات. اخفاق الحكومة الأمريكية في التحدث إلى الناس على الأرض هدم ادعاء بونتراغير بأن تحقيقه "لم يترك أي جانب إلا وحقق فيه". على النقيض من ذلك، قابلت "هيومن رايتس ووتش" 14 شخصا عبر الهاتف كانوا على معرفة مباشرة بالهجوم، من بينهم 4 كانوا في المسجد وقت الهجوم، و8 من السكان المحليين، ومسعفين وصحفيين محليين وصلوا الموقع بعد وقت قصير من الهجوم، وموظفين طبيين عالجا المصابين في الهجوم. هناك حاجة لإدخال إصلاحات هامة على التحقيقات التي تجريها الحكومة الأمريكية لضمان وفائها بمسؤولياتها في محاسبة الانتهاكات المحتملة لالتزاماتها القانونية الدولية.
ملاحظة: شارك في تأليف هذا المقال سارة نوكي، أولي سولفانغ، جوناثان هورويتز، وراضية المتوكل