Skip to main content

استمرار صادرات الأسلحة إلى إسرائيل في مواجهة الإخطار الضمني

إجراءات "محكمة العدل الدولية" الجارية بشأن غزة تعني أن المسؤولين الذين سمحوا بنقل الأسلحة "كان عليهم أن يعلموا" بالمخاطر

نُشر في: Lawfare
أعمدة الدخان تتصاعد بعد ضربة جوية إسرائيلية على مدينة خان يونس، غزة في 8 يناير/كانون الثاني 2024. © 2024 عبد الرحيم الخطيب/بكتشر ألاينس/ دي بي أيه/أسوشيتد بريس فوتو

أفاد صحفيون استقصائيون أن ضربتين جويتين على الأقل شنّهما الجيش الإسرائيلي مؤخرا على غزة - إحداهما على مدرسة تابعة لـ "الأونروا" في النصيرات والأخرى على مخيم لخيام اللاجئين في رفح - يُفترض أنه استخدم فيهما أسلحة أمريكية بطرق تنتهك قوانين الحرب. أحيت هذه التقارير التدقيق حول شرعية استمرار صادرات الأسلحة وأثارت دعوات من المزيد من المنظمات إلى وقف عمليات نقل الأسلحة إلى إسرائيل.

منذ العام الماضي، رفعت منظمات من المجتمع المدني في عدة بلدان قضايا أمام المحاكم المحلية لوقف مبيعات الأسلحة أو نقلها إلى إسرائيل. تتطلب الأنظمة المحلية للحد من الأسلحة  في معظم الدول من المسؤولين حظر أو وقف مبيعات الأسلحة إذا كانوا على علم أو كان ينبغي أن يكونوا على علم بخطر استخدام هذه الأسلحة في انتهاك قوانين الحرب. في الماضي، كانت مثل هذه القضايا، التي كثيرا ما تتطلب من المحاكم تفسير الأنظمة المحلية للحد من الأسلحة، و"معاهدة تجارة الأسلحة"، تتوقف على مسائل "الإخطار" أو "المعرفة".

مثلا، تتطلب معاهدة تجارة الأسلحة إجراء تقييمات للمخاطر وتحظر توفير الأسلحة إذا كانت ستُستخدم في ارتكاب "الإبادة الجماعية، أو الجرائم ضد الإنسانية، أو انتهاكات ’اتفاقيات جنيف‘، أو الهجمات الموجهة ضد المدنيين، أو جرائم الحرب الأخرى". في الولايات المتحدة، التي ليست طرفا في معاهدة تجارة الأسلحة، يتطلب القانون المحلي تقييم المخاطر قبل تقديم المساعدة الأمنية، وتقييم احتمال استخدام الأسلحة المعنية بما يتوافق مع القانون الدولي، ويضع خطوطا حمراء بخصوص حالات عدم السماح بالمساعدة. أدرجت عدة أطراف في معاهدة تجارة الأسلحة المتطلبات بطريقة تمنح سلطة تقديرية كبيرة لصُنّاع السياسات المكلفين باتخاذ قرار بشأن بيع الأسلحة لمن لديهم سجل في ارتكاب الانتهاكات. الزيادة الكبيرة في عدد الحالات التي تتحدى ممارسات الترخيص الداخلية هذه سيضع هذه المعايير الآن تحت التدقيق المشدد.

قد يجد التفسير الضيق لمثل هذه الأحكام أن المسؤولين الذين يتخذون قرار الترخيص يحتاجون إلى "معرفة فعلية" باحتمال ارتكاب جرائم دولية. والتفسير الأكثر شمولا هو أن "المعرفة الضمنية" ستكون كافية. بينما تتطلب المعرفة الفعلية دليلا مباشرا على علم المسؤول بموقف معين، فإن المعرفة الضمنية تشمل أيضا المعلومات التي كان ينبغي للشخص أن يعرفها أو كان من الممكن أن يعرفها بعد مستوى معقول من العناية.

يمكن أن يشكل التقاضي المستمر أمام "محكمة العدل الدولية" أساسا لهذا الإخطار الضمني. رفض المسؤولون الحكوميون الأمريكيون في البداية قضية جنوب أفريقيا بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية ووصفوها بأنها "لا أساس لها"، لكن التدابير المؤقتة التي أصدرتها محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون الثاني، و28 مارس/آذار، و24 مايو/أيار وجدت أن "الحقوق" التي أكدت عليها جنوب أفريقيا كانت "معقولة" – أي أنها "ترتكز على تفسير محتمل للمعايير المستند إليها" - وحددت هذا كأساس لثلاث جولات من الأمر القضائي. أمر المحكمة القوي الصادر في 24 مايو/أيار ردا على طلب جنوب أفريقيا الرابع باتخاذ تدابير مؤقتة، سيجعل محاولات المسؤولين الأميركيين وغيرهم من المسؤولين لإنكار معرفتهم أو التقليل من شأنها أقل قبولا. أوضحت المحكمة أنها "غير مقتنعة بأن جهود الإخلاء والإجراءات ذات الصلة التي تؤكد إسرائيل أنها بذلتها لتعزيز أمن المدنيين في قطاع غزة، وخاصة الذين نزحوا مؤخرا من محافظة رفح، كافية للتخفيف من المخاطر الهائلة التي يتعرض لها الفلسطينيون نتيجة للهجوم العسكري في رفح".

وبالمثل، رغم رفض محكمة العدل الدولية طلب نيكاراغوا بفرض تدابير مؤقتة على ألمانيا، من الجدير بالذكر أن المحكمة رفضت أيضا طلب ألمانيا بحذف القضية من قائمة الدعاوى المعروضة. ما يعني أن القضية ستمضي قدما، على الأقل حتى تقييم الحاجة إلى المشاركة الإسرائيلية، ورغم أن الفرصة سنحت للقيام بذلك، لم ترفض المحكمة ادعاء نيكاراغوا بأن "ألمانيا، من خلال سلوكها فيما يتعلق بالانتهاكات الخطيرة لقواعد القانون الدولي القطعية التي تحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قد انتهكت القانون الدولي". تؤكد نيكاراغوا أن استمرار دعم ألمانيا السياسي والمالي والعسكري لإسرائيل، وقرارها وقف تمويل الأونروا  ينتهك التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، واتفاقيات جنيف، والقانون الدولي العرفي.

تبعا لنهج تفكير المحكمة في هذه القرارات، لا يجوز للمسؤولين في دول ثالثة، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، التظاهر بالجهل بالمخاطر المرتبطة بالاستمرار في دعم العمليات الإسرائيلية في غزة.

أعادت محكمة اتحادية أمريكية بالفعل صياغة استنتاج محكمة العدل الدولية بشأن معقولية حكمها في قضية تؤكد أن كبار المسؤولين الحكوميين الأمريكيين ينتهكون واجباتهم بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، مشيرة إلى أن "الأدلة القاطعة أمام هذه المحكمة تتوافق مع استنتاجات محكمة العدل الدولية وتشير إلى أن  معاملة الجيش الإسرائيلي الحالية للفلسطينيين في قطاع غزة قد تشكل إبادة جماعية تنتهك القانون الدولي". رغم أن المحكمة الأمريكية رفضت هذه القضية لأسباب قضائية، إلا أنها "ناشدت" السلطة التنفيذية بـ "دراسة نتائج دعمها الثابت للحصار العسكري ضد الفلسطينيين في غزة".

ينبغي أن يؤدي الطابع الملح لدعاوى نيكاراغوا وجنوب أفريقيا ضد ألمانيا وإسرائيل على التوالي في محكمة العدل الدولية إلى زيادة تفكير الدول الأخرى بمتطلبات "المعرفة" والعناية الواجبة المضمنة في الأنظمة القانونية التي تحكم عمليات نقل الأسلحة إلى إسرائيل.

أهمية "المعرفة" في مراقبة الأسلحة

تمتد المعرفة الضمنية أيضا إلى المواقف التي يقبل فيها الفرد التأكيدات، لكنه بدلا من التشكيك فيها، يتجاهل الحقائق التي تناقضها ولا يقوم بمزيد من التحريات. في 2023، قدمت إدارة بايدن سياسة منقحة لتصدير الأسلحة التقليدية عدّلت نهجها، وخففت "مستوى اليقين المطلوب لرفض نقل الأسلحة" من "المعرفة الفعلية إلى تحديد أكثر ترجيحا بأن الأسلحة ستُستخدم لانتهاك القانون الدولي، أو تسهيله، أو تفاقم خطره". تتطلب مذكرة الأمن القومي الصادرة في فبراير/شباط 2024 أيضا "ضمانات كتابية موثوقة وذات مصداقية" بأن المستفيدين من الأسلحة الأمريكية الممولة من مخصصات الكونغرس أو المقدمة بموجب سلطة السحب الرئاسي سيستخدمون هذه الأسلحة وفقا للقانون الدولي المعمول به. عمليا، ينبغي أن يعني هذا أن مسؤولي الإدارة مطالبون بتقييم سلوك الشريك الأمني ​​فيما يتعلق بالقانون الدولي.

في المقابل، نشرت بريطانيا في ديسمبر/كانون الأول 2021 مجموعة جديدة من معايير الترخيص لصادرات الأسلحة. حذّر بعض المراقبين من أن القواعد الجديدة أكثر مرونة وقد تسمح بنقل المزيد من الأسلحة البريطانية واستخدامها لارتكاب جرائم حرب. وفقا لمكتبة "مجلس العموم البريطاني"، حلّت المعايير الجديدة محل اللغة السابقة التي حددت "خطر احتمال استخدام عناصر" كعتبة مع لغة جديدة تتطلب "خطرا واضحا من احتمال استخدام العناصر لارتكاب أو تسهيل" قمع داخلي أو انتهاك خطير للقانون الإنساني الدولي.

هذه القضايا ليست نظرية فقط. تنظر العديد من المحاكم المحلية حاليا في التحديات المتعلقة بأنظمة الحد من الأسلحة لديها.

في هولندا، أجبر طعن قانوني الحكومة بالفعل على وقف مشاركتها في برنامج تصنيع الطائرات المقاتلة من طراز "إف-35" (F-35). ما يزال القرار قيد الاستئناف من قبل الحكومة الهولندية، لكن عمليات النقل إلى إسرائيل توقفت في هذه الأثناء. هناك دعاوى قضائية مماثلة جارية في كندا والدنمارك وبريطانيامُنحت "هيومن رايتس ووتش" (حيث أعمل كمديرة المناصرة لشؤون الأزمات) و"منظمة العفو الدولية" و" أوكسفام" مؤخرا الإذن بالتدخل في الإجراءات القانونية في بريطانيا، حيث أصدرت الحكومة 108 تراخيص لتصدير الأسلحة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.

في ألمانيا، رفعت منظمات المجتمع المدني دعوى قضائية تزعم أن "تصدير ألمانيا لأسلحة الحرب إلى إسرائيل يشكل انتهاكا لمعاهدة تجارة الأسلحة، ولاتفاقيات جنيف وللالتزام بمنع الإبادة الجماعية بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية - جميع الاتفاقيات التي صدّقت عليها ألمانيا". رفضت المحكمة الإدارية في برلين الطلب، مؤكدة عدم وجود تصاريح أو تراخيص للأسلحة معلقة في الوقت الحالي وأن الحكومة الألمانية لم تأذن بعمليات النقل منذ فبراير/شباط. في فرنسا، رفضت المحكمة الإدارية في باريس طلبات قدمتها عشرات منظمات المجتمع المدني في ثلاث إجراءات منفصلة لتعليق صادرات الأسلحة الفرنسية إلى إسرائيل. قررت المحكمة أن تراخيص التصدير ليست أعمالا إدارية، بل هي قرارات سياسية مرتبطة بـ "سير علاقات فرنسا الدولية"، وبالتالي، لا يقع هذا ضمن اختصاص المحكمة. أيد "مجلس الدولة"، أعلى محكمة إدارية في فرنسا، هذا القرار عند الاستئناف.

في إسبانيا، وردا على التماس قدمته المعارضة السياسية، فتحت المحكمة العليا الوطنية إجراءات أولية لتقرير ما إذا كانت سفينة شحن انطلقت من ميناء قرطاجنة الإسباني ورست فيه، تحمل أسلحة متجهة إلى إسرائيل. في أعقاب الجدل، أعلن وزير الخارجية الإسباني أن إسبانيا، من منطلق سياساتها، لن تسمح لأي سفن تحمل أسلحة متجهة إلى إسرائيل بالرسو مؤقتا في موانئها.

بالإشارة إلى الالتزامات بموجب معاهدة تجارة الأسلحة وأنظمة ترخيص تصدير الأسلحة المحلية، دعت هيومن رايتس ووتش، منذ نهاية 2023، الحكومات إلى وقف مبيعات الأسلحة وإمداداتها لكل من إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة بسبب الخطر الحقيقي المتمثل في استخدامها لارتكاب انتهاكات جسيمة.  الاستمرار في إمداد أي من الطرفين بالأسلحة يُعرّض الحكومات والمسؤولين الأفراد داخل تلك الحكومات لخطر التواطؤ في انتهاكات القانون الإنساني الدولي.

زاد تضخيم الإنذارات التحذيرية بإعلان المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية علنا عن اعتقاده بمسؤولية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما فيها التجويع، والقتل العمد، والإبادة، والاضطهاد، من بين جرائم أخرى. الطلب الأخير الذي تقدم به المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لإصدار أوامر اعتقال بحق اثنين من كبار المسؤولين الإسرائيليين، إلى جانب ثلاثة من قادة حماس، يُسلّط الضوء بشكل أكبر على درجة التدقيق في محاولات ادعاء الجهل بدور الحكومة الإسرائيلية في الوضع المزري في قطاع غزة في المستقبل.

إجراءات محكمة العدل الدولية كإخطار ضمني

في أعقاب الإجراءات التي بدأتها جنوب أفريقيا ونيكاراغوا في محكمة العدل الدولية، وتدخلات كولومبيا، وليبيا، والمكسيك، ودولة فلسطين، والإجراءات الشفهية المكثفة حول هذه القضايا في لاهاي، سيجد المسؤولون الحكوميون في البلدان الأخرى أنه من الصعب أن يزعموا، في المراجعات المحلية لسياساتهم وإجراءاتهم، أنهم لم يعلموا أو لم يكن عليهم أن يعلموا بمخاطر الجرائم الفظيعة وانتهاكات القانون الإنساني الدولي في غزة.

مثلا، في أمر التدابير المؤقتة الذي أصدرته في يناير/كانون الثاني في قضية جنوب أفريقيا، وجدت المحكمة أن "على الأقل بعض الأفعال وأوجه التقصير التي زعمت جنوب أفريقيا أن إسرائيل ارتكبتها في غزة يبدو أنها يمكن أن تندرج ضمن أحكام الاتفاقية". أشارت المحكمة أيضا بشكل مكثف في الأمر المؤقت إلى الظروف الواقعية على الأرض، وأحاطت علما على وجه التحديد بالعديد من التصريحات التي أدلى بها كبار المسؤولين الإسرائيليين، بمن فيهم وزير الطاقة آنذاك (وزير الخارجية الحالي) إسرائيل كاتز، ووزير الدفاع يوآف غالانت، والرئيس إسحاق هرتزوغ.

عندما أصدرت المحكمة جولتها الثانية من التدابير المؤقتة في إجراءات جنوب أفريقيا في 28 مارس/آذار، كانت صريحة في قلقها بشأن التجويع والمجاعة، واصفة التطورات بأنها "خطيرة بشكل استثنائي" وتُشكل "تغييرا في الوضع".

عند مراجعة دعوة نيكاراغوا لاتخاذ تدابير مؤقتة بشأن ألمانيا، أكدت المحكمة في 30 أبريل/نيسان أن "العملية العسكرية التي نفذتها إسرائيل" أسفرت عن "عدد كبير من القتلى والجرحى، فضلا عن التدمير الهائل للمنازل، والتهجير القسري للغالبية العظمى من السكان، والأضرار الجسيمة في البنية التحتية المدنية".

أشارت المحكمة أيضا إلى أنها "ما تزال تشعر بقلق عميق إزاء الظروف المعيشية الكارثية" في غزة، مشيرة إلى "الحرمان المطول والمنتشر من الغذاء وغيره من الضروريات الأساسية". وفي رأيه المنفصل بشأن أمر نيكاراغوا، ذكر قاضي محكمة العدل الدولية ديري تلادي أن مجرد وجود الإجراءات أمام محكمة العدل الدولية - والتذكير الصريح الذي وجهته المحكمة للدول، ولا سيما ألمانيا، بالتزاماتها الدولية المتعلقة بنقل الأسلحة - يعني أنه "لن تتمكن ألمانيا في المستقبل أن تزعم عدم علمها بالمخاطر".

عندما بدأت نزاعها مع ألمانيا، أفادت التقارير أن نيكاراغوا استخدمت أيضا مذكرة شفوية، أو مذكرة، لإخطار بريطانيا وكندا وهولندا بالنزاع. في بيان صحفي بتاريخ 1 فبراير/شباط، أعلنت حكومة نيكاراغوا أنها "قدمت إشعارا كتابيا في مذكرة شفهية مرسلة إلى هذه الحكومات... بأنها ستتبنى جميع التدابير التي تراها مناسبة وفقا للقانون الدولي، بما في ذلك اللجوء إلى محكمة العدل الدولية". وحثّت تلك الحكومات على "الوقف الفوري لتوريد الأسلحة، والذخائر، والتكنولوجيا، والمكونات إلى إسرائيل لأنه من المحتمل أنها استُخدمت لتسهيل أو ارتكاب انتهاكات لاتفاقية الإبادة الجماعية". قد تُشكل هذه المذكرات الشفهية أيضا أساسا للإخطار الضمني.

فسّر العديد من المراقبين أمر المحكمة الأخير بشأن التدابير المؤقتة في قضية نيكاراغوا ضد ألمانيا باعتباره انتصارا كاملا لألمانيا. وبالفعل، "رحّب" المدير العام للشؤون القانونية في ألمانيا بالحكم على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن من المهم أن نلاحظ أن الأمر - رغم رفض المحكمة فرض تدابير مؤقتة - يحتوي على تحذير صريح للدول التي تختار الاستمرار في نقل الأسلحة إلى إسرائيل. في مرافعاتها الشفهية، زعمت ألمانيا أن نظامها الصارم لضوابط التصدير يضمن أنها لا تصدّر في الواقع أي "أسلحة حربية". بينما استشهدت المحكمة بهذا البيان الوقائعي كأساس لرفض فرض تدابير مؤقتة، شددت على أن "هذه الالتزامات تقع على عاتق ألمانيا كدولة طرف في الاتفاقيات المذكورة في تزويد إسرائيل بالأسلحة".

كتب ألكسندر وينتكر وروبرت ستيندل في "إجيل: توك!" أن الأمر "قد ينطوي على خطر محدق على الدول التي تقدم الدعم العسكري لإسرائيل". قال ستيفان تالمون إن الأمر "يُنذر ألمانيا بأن [محكمة العدل الدولية] ستوافق على طلب جديد من نيكاراغوا إذا استأنفت [ألمانيا] تصدير الأسلحة الحربية وغيرها من المعدات العسكرية إلى إسرائيل والتي يمكن استخدامها لارتكاب أو لتسهيل الانتهاكات الجسيمة لاتفاقية الإبادة الجماعية أو اتفاقيات جنيف".

إلغاء التراخيص ومنع الشحنات

بعض الدول والحكومات والشركات بدأت بالفعل تعديل سلوكها انطلاقا من المخاطر والالتزامات الملحوظة في القانون الدولي العام. مثلا، ذكرت حكومة إقليم والون في بلجيكا محكمة العدل الدولية في قرارها تعليق بيع البارود إلى إسرائيل في فبراير/شباط. بعض الحكومات مثل اليابان ونيوزيلندا والنرويج لديها سياسات قائمة منذ زمن طويل ضد بيع الأسلحة للبلدان المنخرطة في نزاع نشط، مثل إسرائيل. أكدّ مسؤولون حكوميون فرنسيون وأستراليون علنا أنهم لا يصدّرون إلى إسرائيل أي "أسلحة حربية" يمكن استخدامها في غزة، غير أن منظمات المجتمع المدني شككت في هذه المزاعم، استنادا إلى بيانات التصدير المتاحة وإلى تحقيقاتها الخاصة.

انتقد وزير الخارجية النرويجي علنا استمرار مبيعات الأسلحة، محذرا أن "على الدول التي تصدر أسلحة إلى إسرائيل أن تعيد تقييم ما إذا كانت شريكة فعلية في الإبادة الجماعية في غزة، أم لا". حثّ الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي أيضا الدول على إعادة النظر في سياسات الحد من الأسلحة الخاصة بها، مشيرا في ملاحظاته إلى الصحافة في بروكسيل إلى أنه "إذا كان المجتمع الدولي يعتقد أن هذه مذبحة [في غزة]، وأن العديد من الناس يُقتلون [على يد الجيش الإسرائيلي]، ربما علينا إعادة النظر في توريد الأسلحة".

أعلنت كل من كندا وإيطاليا وإسبانيا أنها ستوقف إصدار تراخيص جديدة لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل، لكن يبدو أن الدول الثلاث تستمر بالسماح للشركات المحلية بالالتزام بتراخيص تصدير الأسلحة القائمة. مع ذلك، تستمر كندا في إرسال رسائل متناقضة، ولم تنشر بعد بيانا حكوميا رسميا يشرح قرارها، ولم تصدر أي مذكرة رسمية لمُصدِّري الأسلحة حول عمليات النقل العسكرية إلى إسرائيل.

أعلن الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة ستعلق شحنة واحدة على الأقل مكونة من قنابل زنة ألفي رطل، وقنابل زنة 500 رطل، ومقذوفات مدفعية إلى إسرائيل. أشار بايدن أيضا إلى أنه في حال تنفيذ إسرائيل لهجوم واسع على رفح، ستتوقف الولايات المتحدة عن تزويدها بأنواع معينة من الأسلحة. في ملاحظاته إلى الإعلام، ربط بايدن هذه الأسلحة بهجمات سابقة نفذها جيش الدفاع الإسرائيلي على المدنيين في "المراكز السكانية" في غزة.

اعتراف بايدن بأن الأسلحة المتفجرة التي زوّدتها الولايات المتحدة في الماضي قد استُخدمت في حملات على مناطق مأهولة بالسكان يُمثّل تحولا في الإدارة ويفتح الباب أمام المتخاصمين للاحتجاج بأن المسؤولين الذين يصدرون التراخيص كانوا على عِلم، أو كان يجب أن يعلموا، المخاطر. لكن الحكومة الأمريكية أعلنت أيضا أنها ستستمر بقبول ضمانات من الحكومة الإسرائيلية، التي تصفها بـ "الموثوقة وذات مصداقية". خلصت وزارة الخارجية إلى أنه "من الصعب عادة تنفيذ تقييم سريع ومؤكد أو تحديد ما إذا كانت مواد دفاعية أو خدمات أمريكية معينة قد استُخدمت بطريقة لا تتماشى مع القانون الدولي. طبيعة النزاع في غزة وفترة المراجعة القصيرة للغاية في هذا التقرير الأولي تزيد من حدة هذه التحديات". يأتي هذا التصريح في سياق أعداد كبيرة من الأدلة التي قدمتها منظمات المجتمع المدني، من ضمنها بحث منظمة العفو الدولية، الذي يتناول بالتفصيل الوفيات والإصابات في صفوف المدنيين، مع استخدام مؤكد لأسلحة أمريكية الصنع، بالإضافة ورقة هيومن رايتس ووتش وأوكسفام المقدمة إلى الإدارة، التي تعتبر هذه الضمانات دون مصداقية.

"المعرفة" وواجب المنع

ترتكز قضيتا جنوب أفريقيا ونيكاراغوا في جزء منها  على مسؤولية الطرف الثالث بمنع الإبادة الجماعية، وهو واجب ملزِم للدول الـ 153 الأطراف في اتفاقية الإبادة الجماعية. في قرارها المتعلق بالبوسنة لعام 2007، وضعت محكمة العدل الدولية مبادئ توجيهية للعناية اللازمة التي تتوقعها من الدول عند تأديتها واجب منع الإبادة الجماعية، وحددت أن الواجب ينشأ "لحظة معرفة الدول، أو كان ينبغي لها عادة أن تعرف، بوجود خطر جسيم بارتكاب إبادة جماعية".

كانت دعوى غامبيا ضد ميانمار في 2019 المرة الأولى التي يستخدم فيها بلد ليس له أي علاقة مباشرة بالجرائم المزعومة عضويته في اتفاقية الإبادة الجماعية لرفع قضية أمام محكمة العدل الدولية. في حينها، كتب محامي غامبيا عن الالتزامات الواقعة على ميانمار بعدم انتهاك الاتفاقية وحق غامبيا تجاه كافة الأطراف بموجب الاتفاقية. سبعة بلدان أخرى (كندا، والدنمارك، وفرنسا، وألمانيا، وهولندا، وجزر المالديف، وبريطانيا) أودعت إعلانات تدخُّل في دعوى غامبيا، عملا بمبدأ الالتزام تجاه كافة الأطراف. وافقت محكمة العدل على أنا لديها اختصاص للاستماع إلى الدعوى في 2022. تعتمد جنوب أفريقيا في دعواها ضد إسرائيل على هذه الممارسة. كتبت جنوب أفريقيا في قضيتها في ديسمبر/كانون الأول 2023، "وتدرك جنوب أفريقيا تماما التزامها – كدولة طرف في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية – بمنع الإبادة الجماعية".

من الواضح، على الأقل في الماضي، أن المحكمة نظرت إلى هذا الالتزام على أنه التزام ببذل العناية الواجبة وليس التزاما بتحقيق نتيجة، بمعنى أن الدولة لا يمكن أن تكون ملزَمة بالنجاح، مهما كانت الظروف، في منع ارتكاب الإبادة الجماعية: بل إن الالتزام الواقع على الدول الأطراف هو أن تستخدم كل الوسائل المتاحة لها على نحو معقول  بهدف منع الإبادة الجماعية بقدر الإمكان.

لهذا السبب طلبت جنوب أفريقيا أيضا فرض تدابير مؤقتة عليها وعلى باقي الدول الأطراف في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، لكن المحكمة رفضت هذه الخطوة. قالت المحكمة أيضا إن "إذا كانت الدولة تملك وسائل قد يكون لها أثر مانع على أولئك الذي يُشتبه بتحضيرهم لإبادة جماعية، أو يُشتبه، بطريقة معقولة، في أنهم يُضمرون نية محددة، تُصبح ملزَمة باستخدام هذه الوسائل عندما تسمح الظروف بذلك".

في رأيه المنفصل بخصوص  قرار 24 مايو/أيار، شدد قاضي محكمة العدل، جورج نولتي، على فهمه لهذا المبدأ، مشددا على  أن "معرفة دولة ما بوجود هكذا خطر كافية" لإنشاء واجب المنع.

يركز النقاش العام حول محكمة العدل الدولية في العادة على دعم حكم القانون، والتحديات التي يمكن توقعها أمام إمكانية إنفاذ قراراتها، لا سيما بسبب عدم الثقة بآليات الإنفاذ السياسية، مثل "مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة".

كُتب أقل من هذا بكثير في شأن أثر هذه الإجراءات على نقاشات المحاكم المحلية، لا سيما في الدول الثالثة. لكن الآراء القضائية للمحاكم الدولية بإمكانها وعليها أن تؤثر في قرارات المحاكم المحلية، تحديدا عندما يحاولون تحديد مدى "معرفة" المسؤولين المحليين بالمخاطر المرتبطة بنقل الأسلحة إلى إسرائيل.
 

Your tax deductible gift can help stop human rights violations and save lives around the world.